الانقلاب السوداني في المرآة العربية

الانقلاب السوداني في المرآة العربية

04 نوفمبر 2021
+ الخط -

سبق لهذه الزاوية التعليق على الواقعة الانقلابية العربية الأحدث، وتعود مجدّداً إلى تناولها من عينٍ أخرى، بعد مرور ما يكفي من الوقت، وفضّ ما التبس على بعضٍ منا أول الأمر، بهدوء شديد لتشخيص ماهية الانقلاب العسكري الجديد في بلاد السودان، ومقاربة صورته المتجلّية على سطح المرآة العربية المفترضة.

لكن السؤال عن وجود مثل هذه المرآة المشتركة بين عواصم العالم العربي المختلفة، يظل سؤالاً بديهياً في المقام الأول، ومنطقياً بالضرورة الموضوعية، وذلك قبل الإبحار في الحديث عن انعكاس الصورة التي رسمها عسكر السودان على سطح هذه المرآة الافتراضية، منذ نحو عشرة أيام عاصفة، ملأوا بها الفضاءين، العربي والدولي، بكامل ألوان الطيف، سيما وأن هذه المرآة العربية المتخيّلة، والمثخنة بالجروح الغائرة عميقاً تحت سطحها الرمادي، لم تتمكّن هذه المرّة، ولا في أي مرّة سابقة، من تظهير صورة مقروءة للناظرين إليها عن قربٍ قريب، بما في ذلك صور لا حصر لها، ولا خلاف على وضوح تقاسيمها، مهما كان البصر كليلاً.

ومع ذلك، وعلى قاعدة أن لكل مجتهد نصيبا، من الممكن لنا تخليق مرآة عربية افتراضية، بقاسم الحد الأدنى من المشتركات، تكوّنت تدريجياً غداة انقلاب السودان غير المفاجئ، وراحت تبلور نفسها بنفسها على نحوٍ حثيث، من خلال سلسلة من المواقف الرسمية المتشابهة بالمفردات المغسولة من معانيها، وبالتعليقات المتواترة على ألسنة مصادر لم تشأ أن تفصح عن هويتها، وناطقين درجوا على مسك العصا من منتصفها، كالقول مثلاً إن مراجعها تشعر بالقلق على السلم الأهلي في البلد الشقيق، وإنها تخشى من اللجوء إلى العنف وانفلات حبل الأمن، وتدعو قبل ذلك وبعده إلى اتباع جادّة الحوار بين الأطراف المتخاصمة، وتغليب المصلحة العامة، وغير ذلك الكثير من التعبيرات التي لا تقول كل شيء، ولا تقول في الوقت ذاته شيئاً يعتدّ به في واقع الحال.

بكلام آخر، لا يصحّ الكلام عن موقف عربي موحد إزاء ما وقع في السودان، ومن ثمّة لا يجوز الحديث أصلاً عن مرآة عربية واحدة، تعكس سياسة مشتركة بين دول وقوى وجماعات لم تكن، تاريخياً، على قلب رجل واحد حيال أي شأنٍ قومي عام. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يمكن، لغايات النقاش فقط، إجراء تمرين ذهني، حول مسألة المرآة العربية هذه، الأمر الذي يتيح لنا التقاط صور منسوخة عن بعضها بعضاً، أو قل الوقوف على تعقيباتٍ تكاد تكون متناسخة عن بعضها في مختلف العواصم العربية التي حاكت بحذر شديد وعناية فائقة، موقفاً متهرّباً من تسمية الواقعة السودانية المثيرة بأنها انقلاب، وصاغت بدقةٍ واحترافٍ سياسةً متماثلةً إلى أبعد الحدود، أساسها النأي بالنفس، وغضّ البصر، وإبداء حُسن النية إزاء الجميع، وتحاشي إغضاب أحد، وذلك كله على قاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، ودرءاً لكل اتهامٍ محتملٍ بالتآمر والوقوف وراء الانقلاب.

والحق، لم تبتعد المواقف العربية هذه كثيراً عن مواقف سائر عواصم الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة التي تجنّبت، هي الأخرى، وصف الحدث السوداني انقلابا، ولم تتجاوز الإعراب عن القلق، والتمسّك بحرية التظاهر سلمياً، إلا في ما يخص الدعوة إلى إعادة الحكم المدني، والإفراج الفوري غير المشروط عن الموقوفين السياسيين، وهذه إضافة نوعية لا تقدر على التطرّق إليها بلادٌ مسكونةٌ في معظمها بأنظمة الطوارئ وطبائع الاستبداد الشرقي، الأمر الذي يمكن القول معه إن الحال من بعضه، سوى مثل هذه الاستثناءات التي لا تُكلّف قائليها شيئاً مهماً على الإطلاق.

غير أن من الجدير ذكره، وتسجيله بالبنط العريض، أن دولة أو جهة، أو حتى صوتاً واحداً من خارج السودان، لم يشد على أيدي الانقلابيين، ولم يجاملهم على هذا النحو أو ذاك بكلمة طيبة، بمن في ذلك عواصم ربما شجّعت، من وراء الستار، على ارتكاب هذه الفعلة، التي لا يمكن الدفاع عنها أمام الرأي العام، أو تبريرها بأي حال، وهذه علامة فارقة في مدار هذا الانقلاب الذي ظل محروماً من أي تأييدٍ كان، ومحاصراً من أربع جهات الأرض، كما أن هذه العزلة المطبقة على جنرالات الخرطوم تُعد، بمغزاها المباشر، دلالتها السياسية هذه، إشارة تحذيرٍ حمراء، أحسب أن كل انقلابي، أو مشروع انقلابي متربص في الثكنات، سوف يأخذ هذا المتغيّر في البيئة الدولية على محمل الجد، ويحسب لها ألف حساب في مستقبل الأيام.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي