الانسحابات الأميركية .. نجاحٌ أم فشل؟

الانسحابات الأميركية .. نجاحٌ أم فشل؟

11 ديسمبر 2020
+ الخط -

قرَّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاستمرار في خفْضِ عديد القوَّات الأميركية من بلاد شهدت حروبًا ونزاعات طويلة الأمد؛ من أفغانستان والصومال والعراق. وتختصُّ قرارات الانسحاب من منطقتنا بأهدافٍ لعلَّ مِن أبرزها التخلُّص من الحروب التي لا نهاية لها، وفق ما تعهَّد ترامب، وهو هدفٌ لا يختلف معه الرئيس الديمقراطي الفائز في الانتخابات الرئاسية أخيرا، جو بايدن. ولا تدلّ هذه الانسحابات على تراجُع التعويل على القوَّة الأميركية العسكرية، فقد تجاوزت ميزانية الدفاع، في عهد ترامب، المقدار الذي بلغته في عهد سلفه أوباما، وهي الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة، ولكنها قد تشير إلى تكريس محاولات التخفُّف من الأعباء المنهِكة، واستبدالها بأساليب أقلّ كلفة.

وفصَّل القائم بأعمال وزير الدفاع، كريستوفر ميللر، قرارات الانسحاب من أفغانستان والعراق، بقوله: إنه سيتمُّ سحب ألفي جندي من أفغانستان، وخمسمائة من العراق، بحلول 15 يناير/ كانون الثاني من عام 2021. وسيؤدِّي الانسحاب إلى ترك 2500 جندي أميركي في كلٍّ مِن البلدين. وأكَّد مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، روبرت أوبراين، أنَّ ترامب يأمل في عودة جميع القوات الأميركية من أفغانستان والعراق بحلول مايو/ أيار المقبل. وفي وقت لاحق، أفاد البنتاغون بأن ترامب أمر بسحب معظم القوَّات الأميركية من الصومال (نحو 700 جندي)، وسيتمُّ نقل عدد لم يتم تحديده من القوات في الصومال، إلى دول مجاورة؛ ما يسمح لها بتنفيذ عمليات عبر الحدود، وسيتم تكليف قوَّات أخرى بمهام خارج شرق أفريقيا.

تشير الانسحابات إلى تكريس محاولات التخفُّف من الأعباء المنهِكة، واستبدالها بأساليب أقلّ كلفة

اندرج ذلك كله في سياق أكبر من كَبْح المدّ الأميركي الذي عزَّزه الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، بعد توريط الأميركيين في حربين، أُولاهما كانت الأطول في تاريخ أميركا، وهي الحرب على أفغانستان، إذ استمرّت تداعياتها العسكرية، منذ إطاحة حكم "طالبان" في عام 2001، في مدة وصلت إلى 18 عامًا، والثانية كانت الحرب على العراق، عام 2003، وأسقطت حكم صدّام حسين، وكلَّفت أميركا خسائر مالية باهظة ومرهِقة، فضلًا عن الخسائر في أرواح الجنود الأميركيين، حتى جاءت توصيات لجنة بيكر- هاملتون (مجموعة دراسة العراق)، أواخر سنة 2006، والتي حثَّت، بقوَّة، على سحبٍ تدريجي للقوَّات الأميركية من العراق، واصفةً الوضع هناك بالسيئ، ومخفِّضة الآمال المسبقة، بقولها "إنه لا ينبغي توقُّع حلٍّ سحري لتسوية النزاع في العراق". ووصفت المجموعة الأوضاع في أفغانستان بالكارثية، بحيث قد تحتاج إلى تحويل القوات من العراق، من أجل المساعدة على تحقيق الاستقرار في البلاد. وكانت تلك الهجمة الأميركية العسكرية قد تغذّت بهجمات "11 سبتمبر"، التي تمخَّض عنها هدفٌ كليٌّ أصبح أولوية استراتيجية لإدارة بوش الابن، هو "الحرب على الإرهاب".

مع أن المناقشات حول طبيعة الإرهاب كانت تجري، في دوائر السياسة الخارجية، منذ أواخر الستينيَّات، وأنَّ واحدة من هذه المناقشات كانت تتعلَّق بشبكات الإرهاب العالمية، والدول التي ترعاها، كما يذكر وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية دوغلاس فايث، في كتابه "الحرب والقرار"، إلا أن هجمات "11 سبتمبر" وضعت هدف "الحرب على الإرهاب" في مقدمة أولويات الولايات المتحدة، (ولا سيما في العالمين العربي والإسلامي)، تلك الهجمات التي أعلن تنظيم القاعدة مسؤوليته عنها. وعلى أثْر ذلك، شنَّت أميركا حربين، على أفغانستان، ثم على العراق. ولم تكن هجمات "11 سبتمبر" أولى الدلائل على انخراط تنظيم أسامة بن لادن في مواجهةٍ غير تقليدية مع الدولة العظمى في العالم، والأكثر نفوذًا في المنطقة العربية والإسلامية والعالم، فقد سبقتها تفجيرات سفارتي الولايات المتحدة، في دار السلام (تانزانيا)، ونيروبي (كينيا)؛ وذلك في 7 أغسطس/ آب، 1998. ولكن هجمات "11 سبتمبر" كانت المنعطف الحاسم للتفكير في استراتيجية شاملة لمحاربة شبكات المؤمنين بفكر القاعدة (الجهادي)، سواء كانوا منضوين تحت إطارها، أو خارجها، تنظيميًّا. 

كان الهدف هو القضاء على تهديدات هذه الجماعات المصنَّفة أميركيًا إرهابية، والحؤول دون تكرار مثل تلك الاختراقة على الأرض الأميركية، فكان لا بدَّ من ملاحقتها في العالم أجمع، وفي أماكن تموضعها، على نحو خاص. ولذلك كانت الحرب الأولى على أفغانستان، وهي من البلدان الأكثر فقرًا في العالم، ولكنها البلد الذي يصرُّ على احتضان زعيم القاعدة، واستضافة أنصاره، ومع أنّ عراق صدّام حسين لم يثبت ارتباطه بتلك الجماعات، إلا أن الحرب عليه أعلنت في 2003، ما اقتضى تمركز عديد القوات الأميركية؛ لتثبيت الأوضاع السياسية، والتمكين للانتقال السياسي من حُكْم حزب البعث إلى حكمٍ أُريد له، بحسب التصريحات الأميركية، أن يكون ديمقراطيًّا. 

طبيعة تنظيم القاعدة لم تكن مركزية، ولم تكن تعمل بتسلسل هرَميٍّ موَحَّد، بل بطريقة شبَكَيَّة

وبما أن طبيعة تنظيم القاعدة لم تكن مركزية، ولم تكن تعمل بتسلسل هرَميٍّ موَحَّد، بل بطريقة شبَكَيَّة، فقد تناسلت منه تنظيماتٌ تدين لزعيمه بالولاء، ولكن بإمكانها الاستمرار، حتى بعدما أصيب التنظيم بزعيمه ابن لادن الذي أُعلِن عن تصفيته في عهد الرئيس باراك أوباما، كما كان في الصومال، مثلا، في ما عُرِف بـ"حركة الشباب المجاهدين". وبعدما ظهر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي انتشر، بشكل ملحوظ، في 2014، وأخذ ينافس تنظيم القاعدة، ويتفوَّق عليه، في الامتداد الجغرافي، وفي عدد الأتباع والأنصار، ثم في إعلانه "دولة" خاصة به، توجَّه جهد أميركا الحربي والسياسي نحوه، إلى أن أمكنها إضعافه، على نحو واضح، بعد إسقاط دولته، أواخر عام 2017. 

بعد القضاء على دولة "تنظيم الدولة" وحرمانه من معظم الأراضي التي كانت تحت قبضته، أصبحت الأرضية أكثر تمهيدًا لتخفيف التورُّط الأميركي العسكري في المنطقة، وبدا الرئيس ترامب أكثر تصميمًا على الانتهاء من "الحروب التي لا نهاية لها"، فهذه القرارات بالانسحاب، والتي أُعلِن عنها أخيرا، تنسجم مع توجُّهاتِ ترامب، غير الراغب في انخراط أكبر في صراعات خارج بلاده، وغير المتحمِّس حتى لتحالفاتٍ وشراكاتٍ دولية؛ توجُّهاتٍ وجدنا صدىً لها في العلاقة مع حلف شمال الأطلسي، واتفاقية باريس للمناخ، ومنظَّمتي التجارة العالمية والصحة العالمية.

دأبت الولايات المتحدة على الحفاظ على صورتها، دولةً مهيمنة، وعلى هيبتها العالمية، من خلال تظهير نجاحاتها، في صور واضحة

ولطالما دأبت الولايات المتحدة على الحفاظ على صورتها، دولةً مهيمنة، وعلى هيبتها العالمية، بتظهير نجاحاتها، في صور واضحة، فقد أظهرت القضاء على إمارة طالبان في أفغانستان، في عهد جورج بوش الابن، كما أظهرت في عهد باراك أوباما تصفية ابن لادن، وإضعاف نشاط القاعدة، وفي عهد ترامب أظهرت نجاحها في القضاء على دولة "داعش"، وتصفية "خليفتها" أبو بكر البغدادي، وكثير من قيادات التنظيم. ومع ذلك فإنها لا يمكنها الادِّعاء بتحقيق طموحاتٍ بعيدة في التمكين للنموذج الذي أعلنته، سياسيًّا، وفي الانتقال الديمقراطي، في أيٍّ من أفغانستان، أو في العراق، أو في الصومال، ولا حتى في التمكين لحلفائها في هذه البلدان، سياسيًّا وأمنيًّا، بما يسمح لهم بالسيطرة على المنافسين، أو المهدِّدين، ومنهم جماعات توصف بالإرهابية، كما "حركة الشباب المجاهدين" في الصومال، أو بالمتشدِّدة، كما حركة طالبان في أفغانستان، والمليشيات الموالية لإيران وبقايا تنظيم داعش في العراق. 

ولا تحول انسحابات الولايات المتحدة دون استبقاء نفوذها وتحكُّمها، واحتواء المخاطر المحتملة، فمعلوم أن الانسحاب لا يعني انعدام وسائل بديلة للسيطرة والتحكُّم، كملاحقة قادة الجماعات المعادية، وتصفيتهم، وعرقلة تمويلهم، ومعاقبة الدول التي تستضيفهم، أو تدعمهم، وذلك كله تحت سقف الهيمنة الأميركية العالمية، ولوجود قواعد عسكرية في المناطق المجاورة، وحاملات الطائرات، والقوات المحمولة جوًّا، وذلك كله ضمن ميزانية للدفاع هي الأضخم من بين دول العالم، ولا سيما في عهد ترامب، لكن من المعلوم أيضًا أن مقادير التحكُّم والمتابعة الفعَّالة، وسرعة التحرّك، ونجاعته، لن تكون بالدرجة نفسها، فيما لو بقيت تلك الأعداد على أرض البلد المستهدَف.

وقد سعى "البنتاغون" إلى تبديد المخاوف من تداعيات هذه الانسحابات، حين أكّد أن الولايات المتحدة "ستحتفظ بالقدرة على تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب المستهدفة في الصومال، وجمع الإنذارات والمؤشِّرات المبكرة المتعلقة بالتهديدات على الوطن". وأضاف بيان البنتاغون أن الولايات المتحدة لا "تنسحب"، أو "تنفصل" عن أفريقيا وأن بعض القوات يمكن إعادة تكليفها خارج شرق أفريقيا. وقال إنه سيتم نقل بقيَّة القوات من الصومال إلى الدول المجاورة؛ ما يسمح بعمليات عبر الحدود، من القوات الأميركية والقوات الشريكة، من أجل الحفاظ على الضغط ضد المنظمات المتطرّفة العنيفة العاملة في الصومال، مؤكِّدًا أن هذا الإجراء ليس تغييرًا في سياسة الولايات المتحدة، "لأنها ستواصل إضعاف المنظَّمات المتطرفة العنيفة التي يمكن أن تهدِّد وطننا، مع ضمان الحفاظ على ميزتنا الاستراتيجية، في منافسة القوى العظمى".

وفي ما يتعلق بالانسحاب الأميركي من أفغانستان، يرى خبراء باكستانيون أن المؤسسة العسكرية الباكستانية هي التي أعطت تأكيدات لواشنطن، نيابة عن "طالبان"، باستخدام نفوذها عليهم، وتأكيدات بإجبار "طالبان" الباكستانية "طالبان" الأفغانية على الموافقة على وقف الهجمات على القوات الأميركية، في أفغانستان، وأن ترامب استغلَّ علاقاته الجيدة مع رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، لإنجاز المهمة. 

 شكوك في احتفاظ الولايات المتحدة بالقدرة إيَّاها التي يوفرها وجود قوات لها على أرض  البلدان التي خفَّضت من وجودها العسكري فيها

إلا أن هناك شكوكًا في احتفاظ الولايات المتحدة بالقدرة إيَّاها التي يوفرها وجود قوات لها على أرض تلك البلدان التي خفَّضت من وجودها العسكري فيها؛ نظرًا إلى الوضع الدولي التنافسي، وبروز طموحات روسية وصينية، بأدوار أكبر، وامتدادات جديدة، استغلالا ومَلْئًا لأيِّ فراغ أو خلخلة، تسمح بها تلك الانسحابات، كما هو واضح التمركز الروسي العسكري، والاستراتيجي، في سورية، على البحر المتوسط، ثم في السودان، على البحر الأحمر، بعد كشْفِ الحكومة الروسية عن التوصُّل إلى اتفاق مبدئيٍّ مع السودان، من أجل بناء قاعدة دعم تقني - فنِّي بحرية للأسطول الروسي، في مدينة بورتسودان الساحلية، على البحر الأحمر، وهو ما قد يشي بأن روسيا بدأت بتنفيذ استراتيجية طويلة الأمد، لتوسيع وجودها العسكري في أفريقيا. ولا تخفي موسكو هذه الطموحات، في محاولة منها لاستعادة النفوذ الكبير الذي كان للاتحاد السوفييتي، إذ سبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن قال: إن تقوية العلاقات مع البلدان الأفريقية يعدُّ أحد أولويات السياسة الخارجية الروسية. وفي مارس/ آذار 2017، أدلى رئيس "القيادة الأميركية في أفريقيا"، الجنرال توماس والدوسر، بشهادته أمام "لجنة الخدمات المسلحة" في مجلس الشيوخ الأميركي، وقال إنَّ روسيا تسعى إلى ممارسة أقصى قدر من النفوذ على المنتصر الأكثر ترجيحًا في الحرب الأهلية الليبية، وإن هذا النفوذ لن يصبَّ في مصلحة الولايات المتحدة.

أميركا تمرُّ في مرحلة تخفض فيها سقفَ أهدافها، وترخي فيها قبضتها المهيمنة المباشرة تحت وطأة أعباء التوسُّع وتكاليفه

وتعبيرًا عن الأصوات الرافضة للانسحاب من الصومال، والمحذِّرة من تداعياته، ندَّد عضو الكونغرس جيم لانجفين، رئيس اللجنة الفرعية للاستخبارات والتهديدات والقدرات الناشئة التابعة للجنة القوَّات المسلحة في مجلس النواب، بسحب ترامب للقوات من الصومال، ووصفه بأنه "استسلام للقاعدة وهديَّة للصين"، كما شكَّك لانجفين في توقيت الانسحاب الذي يأتي قبل الانتخابات في الصومال، ووسط صراع محتدم في إثيوبيا المجاورة.

من الواضح أن أميركا تمرُّ في مرحلة تخفض فيها سقفَ أهدافها، وترخي فيها قبضتها المهيمنة المباشرة، (مع محاولة تعويض ذلك بتعاون حلفاء إقليميين)، تحت وطأة أعباء التوسُّع وتكاليفه، في تقاطُعٍ مع ما حذّر منه المؤرِّخ الأميركي البارز بول كينيدي، في كتابه "صعود وسقوط القوى العظمى"، الذي حذّر فيه من "التوسُّع الاستعماري" الأميركي الذي لا بدَّ أن يعرِّض القوة الاقتصادية الأولى للإرهاق، تحت وطأة الإنفاق العسكري غير المحدود. كما أننا لا نعدَم استجابة، ولو غير حادّة، وغير صريحة، لاتجاهات العزلة، وبعض الانكفاء، فهذا النأي عن نزاعاتٍ طويلة وحروب واسعة ممَّا يتفق عليه الحزبان، الديمقراطي والجمهوري، وممَّا يتوافق مع توجُّهات غالبية أميركية شعبية.