الانحياز السوري المستحيل
وجد السوريون أنفسهم، في الأيام القليلة الماضية، وجهاً لوجه مع مشهد غير مألوف. إيران، التي تورّطت عميقاً في الدم السوري 14 عاماً من عمر الثورة السورية تتعرّض لضربات موجعة من إسرائيل، العدو التقليدي الذي لم يتوقف يوماً عن استباحة الأجواء السورية.
للوهلة الأولى، بدا المشهد كأنّه يفتح نافذة صغيرة للشماتة، أو لحظة ارتياح مؤجّلة، كأنّنا نشهد لحظة انتقام مؤجّلة نيابةً عن كل ما عانيناه من الخراب والدمار والتشريد، غير أنّ هذا الشعور سرعان ما بدأ يتآكل ويتراجع. كأنّ الارتياح نفسه يفقد معناه حين لا تجد من تشاركه إياه، أو حين لا تدري تماماً في أي صفٍّ تقف، فالمشهد، وإن بدا باعثاً على الرضا، كان في الحقيقة مشحوناً بالتناقض، ولا يخلو من الإحراج.
شهد السوريون الذين اعتادوا أن يكونوا ضحايا صامتين في مسرح الحروب، 12 يوماً، صراعاً عنيفاً بين قوتين مارستا عليهم صوراً مختلفة من القهر، من دون أن نكون هدفاً مباشراً له، رأوا من أذاقوهم الألم والضرر يتبادلون الضربات، ومع ذلك لم يسعهم الاحتفال، فالمشهد كان مشحوناً ومعقّداً، ولم يخلُ من التناقض، فإيران التي أرسلت مليشياتها لتقاتل دفاعاً عن نظام دمّر مُدنهم وقُراهم واستباح أعراضهم وأجرم في حق شعبه، وإسرائيل التي تعاملت مع سماء السوريين كأنّها حقل رماية بلا تكلفة وكرّرت قصفها الأراضي السورية وكأنّها أرض مستباحة، تصارعتا، ومع أنّ المشهد كان يفترض نوعاً من الرضا المشوب بمرارة الشماتة، إلا أنّه كان رضا ثقيلاً متردّداً لم يخلُ من الإحراج.
في مثل هذه اللحظات، يصبح الحياد صعباً، حتى في أكثر الأمور بساطة، كمشاهدة مباراة كرة قدم بين فريقيْن لا يعنيك أي فريق منهما، فجأةً تجد نفسك منحازاً إلى أحدهما. ولا يختلف الأمر في الحروب كثيراً، إذ يتضخّم هذا الميل ليأخذ طابعاً وجودياً: مع من نقف؟ ولماذا نشعر بما نشعر؟ فنحن لا نحتمل أن نكون مجرّد مراقبين، فالانحياز يمنحنا شعوراً بالدور، حتى لو كان وهمياً.
تدفعنا هذه الحاجة الملحّة لفهم مشاعرنا إلى بناء سرديات تبريرية، لا لتوضيح الموقف السياسي فقط، بل لفهم ذواتنا، ولأنّ مشاعرنا قد تكون محرجة أو غير مقبولة اجتماعياً، حاولنا أن نُلبسها لبوساً أكثر احتراماً، كأن يفرح السوريون لقصف إيران لأنّها أذاقتهم الويلات، ولقصف إسرائيل لأنّها عدو تحتل أرضهم وتنتهك سيادتهم. ربما يكون هذا صحيحاً، لكنّه لا يروي كل الحكاية، ففي أعماق السوريين ربّما فرحوا فقط لأنهم تعبوا من الخسارات المتكرّرة، وكانوا فقط بحاجة إلى لحظةٍ يروْن فيها من أذلّوهم وقتلوهم وشتتوهم يتألمون، حتى لو لم يكن السوريون أنفسهم من تسبّب بذلك، فأحياناً يكون الشعور بالعدالة مجرّد عزاء رمزي لا أكثر.
خلال 12 يوماً من الحرب الإسرائيلية الإيرانية، وجد السوريون أنفسهم في لحظة مسرحية كبرى
حتى هذه التبريرات لا تصمد طويلاً أمام الحقيقة المُرّة: لا يوجد اليوم مشروع وطني سوري مستقل يستطيع أن يحدّد من هو العدو ومن هو الحليف، أو يصوغ موقفاً جامعاً يُعبّر عن مشاعر السوريين الأخلاقية والوجودية، فإيران، التي دعمت بقاء نظام الأسد بالسلاح والمليشيات، لا يمكن الوثوق بها، وإسرائيل، التي تستثمر في الفوضى السورية لتحقيق تفوّقها الأمني لا يمكن الرهان عليها، وبين هذا وذاك، يغيب الصوت السوري المستقل، ويغيب معه المعنى.
سياسياً، يشير هذا الفراغ إلى عدم قدرة الإدارة السورية الجديدة، أقله حتى اللحظة، على إنتاج رؤية موحّدة لمستقبل البلاد، نابعة من الإرادة الشعبية، لا من الحسابات الإقليمية، فمع تحوّل الأرض السورية إلى ساحة صراع للآخرين، بات السوري محاصراً، لا يملك حتى ترف التعبير عن فرحه أو غضبه من دون أن يُتَّهم بالخيانة أو الجحود.
خلال 12 يوماً من الحرب الإسرائيلية الإيرانية، وجد السوريون أنفسهم في لحظة مسرحية كبرى، لم يملكوا فيها موقع البطولة، ولا حتى دور الكومبارس، بل مجرّد جمهور لا يستطيع مغادرة القاعة، ولا التأثير على النص. لم يستطيعوا أن يختاروا مع من يقفوا، لأنّ كل خيار بدا، في أحد وجوهه، خيانةً لجزء من ذاكرتهم، أو لجزء من مجتمعهم، أو تنازلاً عن قناعات لا تزال جراحها مفتوحة.
لهذا السبب، تبدو مشاعر السوري اليوم مربكة ومؤلمة ومتردّدة، هي مشاعر لا تُقال بسهولة، ولا تجد ترجمتها في لغة السياسة، فما بين عدوين لا يمكن الوثوق بأيّ منهما، نعود إلى المربع الأول: ماذا يعني أن نكون سوريين في عالم بات فيه الخصوم متشابهين في القسوة؟ ربما لهذا، تفرض هذه اللحظة أسئلة وجودية مؤجّلة: ما معنى أن نكون سوريين؟ كيف نبني مستقبلاً إن لم يستطيعوا بعد أن يعرّفوا حاضرهم؟ وهل يمكن للحياد أن يكون فضيلة، أم هو الوجه الآخر للعجز؟
قد لا تكون الإجابات قريبة، لكن وضوح السؤال هو البداية، وفي انتظار أن يُولد مشروع سوري يُعيد ترتيب المعاني والانتماءات، يبقى هذا الشعور الثقيل (بالغصّة والتردّد) أقرب ما يكون إلى الحقيقة.