الانتقال الديمقراطي في سورية ودروس مصر وتونس

17 فبراير 2025
+ الخط -

فتح سقوط نظام الأسد باب انتقال سورية من نظام مستبدٍّ، حكم سورية أكثر من نصف قرن، إلى نظام يقوم على أسس الديمقراطية والتعدّدية والمواطنة واحترام الحريات. وهو ما انطلقت من أجله ثورة الحرية والكرامة في مارس/ آذار 2011. في أحيانٍ كثيرة، تكون الفترة الانتقالية محفوفة بالمخاطر، ومفتوحةً على احتمالات عديدة، منها فشل عملية الانتقال والعودة إلى الاستبداد كما حصل في مصر وتونس. لا شكّ أن لكل حالة من حالات ثورات الربيع العربي خصوصيّتها. بالتالي، هناك سياقات وشروط مختلفة لعمليات الانتقال في كل دولة، لكنْ ثمّة قواسم مشتركة فيما بينها أيضاً، وثمّة دروس يمكن لسورية الاستفادة منها، من تجارب الآخرين وإخفاقاتهم.

بعد 18 يوماً من اندلاعها، أجبرت الثورة المصرية الرئيس حسني مبارك على التنحّي. وكان لامتناع الجيش عن التدخّل لقمع المتظاهرين دورٌ رئيسيٌّ في ذلك. بعد فترة انتقالية، كان لهذا الجيش دورٌ أساسيٌّ فيها، تمكّن الإخوان المسلمون، عبر صناديق الاقتراع، من السيطرة على البرلمان، والوصول إلى سدة الرئاسة. لكن أجهزة الدولة العميقة، سيّما الجيش، حافظت على استقلاليتها بعيداً عن سيطرة "الإخوان". ما سهل نجاح انقلاب الجيش بقيادة عبد الفتاح السيسي، مستفيداً من أخطاء "الإخوان"، لا سيّما محاولات "أخونة" الدولة والمجتمع، ومدعوماً بحراك الشارع الذي بدأ يعاني من أزماتٍ معيشية، لم يكن الجيش المعروف بنفوذه الاقتصادي بريئاً منها. فضلاً عن ذلك، آثر "الإخوان المسلمون"، من موقع الثقة بقوتهم السياسية والمجتمعية، استبعاد فكرة التشارك مع القوى السياسية والمجتمعية، التي اتّصفت بضيقِ أفق عبّر عنه تفضيلها دعم الجيش والتحالف معه على حكم "الإخوان"، الأمر الذي نتج عنه في المحصلة نجاح الثورة المضادّة في إجهاض التجربة الديمقراطية في مصر، وعودة الاستبداد، بل بمستوى أعلى مما كانت عليه الحال في عهد مبارك.

أما في تونس، فقد أدّى تصاعد الاحتجاجات الشعبية، وامتناع الجيش عن قمعها، إلى التعجيل بفرار الرئيس بن علي (بعد أقل من شهر على اندلاع الثورة). بعدها ولتسعة أشهر، جرت عملية التأسيس للمرحلة الانتقالية، التي توّجت بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي. تصدّرت النتائج حركة النهضة الإسلامية بحوالى 41% من المقاعد، وحقّقت القوى الديمقراطية والعلمانية نتائج جيدة أيضاً. وتشكل تحالفٌ من القوى الفائزة، فذهبت رئاسة الحكومة إلى حركة النهضة، والرئاسة إلى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، ورئاسة المجلس إلى حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات. كانت مهمة المجلس وضع دستور جديد للجمهورية الثانية، إضافة إلى مهامه التشريعية، وكان منها إصدار قرار حل حزب التجمع الدستوري الحاكم. وخلال هذه المرحلة، كان موقف "النهضة" متقدّماً بأشواط على موقف "إخوان مصر" لجهة عدم الميل إلى سياسات الأسلمة، وقبول "النهضة" بالشراكة مع القوى الأخرى، ناهيك عن المشاركة الواسعة للمرأة في الحياة السياسية. وفي نهاية المرحلة الانتقالية التي استمرّت ثلاث سنوات، جرت صياغة الدستور والموافقة عليه في يناير/ كانون الثاني 2014. ثم أجريت الانتخابات التشريعية التي جاء فيها حزب نداء تونس، حديث التأسيس، أولاً، بينما حلّت "النهضة" في المرتبة الثانية، وفاز في الانتخابات الرئاسية زعيم حزب نداء تونس، الباجي قائد السبسي، المحسوب على نظام بن علي. كان ذلك إيذاناً ببدء العد العكسي للثورة المضادة، إذ بدأت فلول النظام، ومراكز قوى العهد البائد، تدريجياً بتنفيذ انقلابها على التجربة الديمقراطية، الأمر الذي تحقق فعلاً بعد انتخاب قيس سعيّد رئيساً للجمهورية في العام 2019. صحيح أنه لا يمكن مقارنة مستوى القمع الذي حصل في مصر(مجزرة ميدان رابعة العدوية، اعتقالات واسعة في صفوف الإخوان المسلمين طالت الرئيس المنتخب محمد مرسي وقيادات "الإخوان"، ... إلخ) مع ما حصل في تونس، لكن الواضح أننا بتنا أمام نسخة جديدة من نظام بن علي الاستبدادي، وإنْ بوجوه أخرى، وسياسات قمعية مختلفة.

بالانتقال إلى سورية، اندلعت الثورة في أواسط مارس/ آذار على شكل تظاهرات سلمية امتدّت واتسعت لتشمل كل سورية، غير أن مستوى التوحش والقمع الذي قوبلت به من النظام، دفع بالثورة نحو العسكرة. تماسكُ النواة الصلبة للنظام، وفي مقدّمها الجيش والأجهزة الأمنية، والممارساتُ الاجرامية بكل أشكالها، من القتل المباشر إلى القتل تحت التعذيب، واستخدام السلاح الكيماوي وتدمير البيوت والقرى والمدن الذي راح ضحيته مئات آلاف السوريين، حالَ، ذلك كلّه، دون سقوط النظام، وكان لروسيا ولإيران ومليشياتها دورٌ حاسم في ذلك. أما التدخّل الخارجي لصالح المعارضة السورية، فكان دوره، كما بات معلوماً، كارثياً على الثورة، وأضرّ بها ولم ينفعها. كان من نتائج الصراع المسلح بين النظام والمعارضة المسلحة، أنْ قسّمت سورية إلى مناطق يهيمن عليها النظام، وأخرى تحت سيطرة الفصائل المسلحة، العربية والكردية.

القطع مع الاستبداد، بكلّ أشكاله، وإقامة نظام يقوم على الديمقراطية والمواطنة والعدالة والمشاركة واحترام الحرّيات هو الضمانة لاستقرار سورية وتطورها

قبيل انطلاق عملية ردع العدوان في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 التي شاركت فيها الفصائل المسلحة، بقيادة هيئة تحرير الشام، كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في سورية قد وصلت إلى الحضيض، والنظام وجيشه في حالة ترهّل، وكانت روسيا مشغولة بحربها ضد أوكرانيا، أما حزب الله وإيران، فكانا في حالةٍ يُرثى لها، بعد ضربات إسرائيلية قاسية إن لم تكن قاصِمة. مهّد ذلك كلّه الأرضية لذلك الانهيار المدوّي للنظام السوري، الذي عبّر عنه هروب رأس النظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول، أي بعد أحد عشر يوماً من انطلاق عملية ردع العدوان.

ها نحن إذن أمام نجاح جديد، وإن تأخر 13 عاماً، لأحد ثورات الربيع العربي في الخلاص من أحد أعتى أنظمة الاستبداد في المنطقة العربية. وها هي سورية أمام استحقاق الانتقال من نظام مستبد إلى نظام ديمقراطي يحقق الحرية والكرامة التي ثار من أجلها السوريون. فكيف يمكن ضمان النجاح في ذلك؟ وكيف يمكن الاستفادة من تجربتي تونس ومصر لتجنّب ما آلت إليه ثورتاهُما؟

كما أشير أعلاه، كان من أسباب نجاح الثورة المضادّة في مصر عدم التشارك في الحكم وإدارة شؤون البلاد بين المكونات السياسية والمجتمعية التي أطاحت بمبارك، وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته في سورية اليوم، من خلال تركيز السلطة الانتقالية على الانفتاح الكبير على الخارج، عربياً وإقليمياً ودولياً، في مقابل انغلاقها على الداخل. فهناك إصرار غريب من هذه السلطة على رفض الحوار مع مكوّنات المجتمع السوري، السياسية والاجتماعية والفكرية، حول تحديد الأولويات ورسم السياسات، واستبعادها من المشاركة في إدارة المرحلة الجديدة. وكان من نتائج ذلك اتخاذ قرارات خاطئة في مجالات عدة، وقضايا بالغة الحساسية. هنا يصح التساؤل: لماذا التسرّع في تبني سياسات اقتصادية غير مدروسة، من دون الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص، ومن دون مراعاة لأوضاع الناس المعيشية؟ كيف وعلى أيّ أسس اتُّخذ قرار إغلاق بعض مؤسّسات القطاع العام، وأُعلنت النية بخصخصة بعضها الآخر، وفَصل عاملين كثيرين في مؤسساته؟! أليس طبيعياً القول إن لما يحصل ارتدادات سلبية وخطيرة ويتسبب بانقسامات في المجتمع، ويوفر تربة خصبة لمن يريد، من داخل سورية أو خارجها، الانقضاض على ما حصل من تغيير، وإجهاض عملية التحوّل نحو الديمقراطية؟

من الأخطاء القاتلة في تجربتي مصر وتونس عدم استبعاد رموز النظام من مراكز القوى، ومؤسّسات الدولة العميقة، والاستخفاف في التعامل مع استحقاقات العدالة الانتقالية

كان من الأخطاء القاتلة في تجربتي مصر وتونس عدم استبعاد رموز النظام من مراكز القوى، ومؤسّسات الدولة العميقة، والاستخفاف في التعامل مع استحقاقات العدالة الانتقالية، ولم تحصل محاسبة فعلية لمرتكبي الانتهاكات من النظامَين البائدين، الأمر الذي مهّد لنجاح الثورة المضادة. صحيحٌ أن مراكز قوة نظام الأسد الهارب، لا سيّما المؤسّستين العسكرية والأمنية، لم يعد لها وجود، لكن ثمة ثغرات في هذا المجال، منها عدم التركيز على ملاحقة قيادات النظام البائد، ذات القدرة على الفعل والتأثير والتحشيد، وأيضاً تسوية أوضاع بعض الشخصيات المعروفة بإجرامها بحقّ السوريين. هنا لا بُدّ من التأكيد على ضرورة الإسراع في تشكيل هيئة العدالة الانتقالية، بحيث يشارك فيها مختصّون أكفاء في مجال القضاء وحقوق الإنسان، وممثلون عن أهالي الضحايا. وإنّ أخذ القانون باليد، والانتهاكات من عناصر الإدارة الجديدة، وعدم الإسراع في محاكمة مجرمي الحرب، سوف يشكّل تهديداً حقيقياً للاستقرار الأمني والسلم الأهلي، وهو الأمر الذي ينتظره أعداء الثورة السورية، ودعاة الثورة المضادّة، داخل سورية وخارجها.

أيضاً، كان من أخطاء تجربتي مصر وتونس استرخاء القوى السياسية والمجتمعية عموماً، وتريّثها في التصدّي للممارسات الاستبدادية في بداياتها، ما صعّب من مواجهتها بعد استفحالها، واشتداد عود السلطة الحاكمة. من هنا تأتي أهمية تصاعد الحراك السياسي والمجتمعي في سورية، وتفعيل مؤسّسات المجتمع المدني، وتوسيع مساحات حضور السوريين في المجال العام، وأن تكون مقاومة الاستبداد بكلّ أشكاله، والرفض القاطع للعودة إلى الوراء، واحداً من القواسم المشتركة للسوريين.

يبقى التأكيد، مرّة أخرى، على ضرورة أن تبادر الإدارة الانتقالية إلى إشراك جميع المكونات السياسية والمجتمعية في رسم ملامح النظام القادم، والانفتاح على الشعب والاعتماد عليه في تحصين الوضع الداخلي، وليس الاتّكاء على رضا الخارج ومباركته. فالشرعية، أولاً وأخيراً، تأتي من الداخل لا من الخارج، وإنّ القطعَ مع الاستبداد، بكلّ أشكاله، وإقامة نظام يقوم على الديمقراطية والمواطنة والعدالة والمشاركة واحترام الحرّيات هو الضمانة لاستقرار سورية وتطورها.

إنْ سارت السلطة الانتقالية في هذا الطريق، فسيكون النجاح حليف عملية الانتقال الديمقراطي، ووصول سورية إلى بر الأمان، أما سياسات الإقصاء، والاستئثار بالسلطة، والتمسّك بمقولة "مَن يحرّر يُقرر"، فهي وصفات مجرّبة للفشل الذريع.