الانتخابات المغربية .. بأيّ أحوال تعود؟

الانتخابات المغربية .. بأيّ أحوال تعود؟

09 يوليو 2021

مغربي في مركز اقتراع في الرباط لانتخاب البرلمان (7/10/2016)

+ الخط -

أسئلة كثيرة تُطرح في مصداقية الانتخابات، من حيث هي "آلية" تمثيلية قانونية، من شأنها إفراز من يتولى تسيير شؤون المواطنين (المُشاركين والمُقاطعين). وعلى الرغم من جدارة تلك الأسئلة، إلا أن الانتخابات في الأنظمة المتعثرة ديمقراطيا غيرُها في الأنظمة الغربية الديمقراطية. عادة ما يُستعمل تعبير "ديمقراطية الواجهة" في دول كثيرة من عالمنا العربي، لتوصيف تلك العملية الانتخابية الشكلية التي تُفْرَغ من محتواها الفلسفي، والثقافي، والقانوني. ولذلك، يمكن توجيه مثل هذا السؤال إلى "الديمقراطية المغربية": هل يُراد من العملية الانتخابية إفراز خريطة سياسية حقيقية، تُعبِّر عن التجاذبات الواقعية داخل المجتمع، على أساس تمكينها من ممارسة الحُكم، وفق ما تُمليه الإرادة الشعبية؟

كثيرا ما يتناهى إلينا التمييز بين "الحكومة" و"الحُكْم"، "الدولة" و"الدولة العميقة". والملاحظ أنه يجري تداول عدد من التقابلات في هذا الشأن، حتى في الدول العريقة ديمقراطياً. وفعل التقابل يدل، هنا، على وجود سُلطتَي قرار. وقد تابعنا الانتخابات الأميركية في نهايات العام الماضي (2020)، وما كان يدور من حديث عن رفض "جهاتٍ" استمرار دونالد ترامب في الرئاسة لولاية ثانية. غير أن تَدخُّل مثل تلك "الجهات" التي يمكن الاصطلاح عليها باصطلاحاتٍ من قبيل ما تقدّم، لا ينبغي أن يُقارن بما يحدث في الأنظمة الاستبدادية، أو على الأقل المُتعثِّرة ديمقراطيا. الأصل في الحكم، لدى الأخيرة، مُسجّل باسم الدولة العميقة أولا وآخرا.

"المخزن" المغربي أثبت قدرة هائلة على التجدّد، وفق ما ظلّ يطرأ من تغيُّر في الأحوال عامة

 

مغربيّا، كان يُلجأُ إلى نعْت الحكومة بـ"الحكومة المحكومة". وغير بعيدٍ عن هذا المعنى، ولتوصيف ما كان يجري من صُنْع للخرائط الانتخابية، استُعمل تعبير "الحكومة المخدومة" زعيم حزب الاستقلال الأسبق، المرحوم امْحمَّد بوستّة. من بين كل تلك الاصطلاحات المشار إليها، إضافة إلى أخرى لا يتسع لها مجال للذكر، انفرد المغرب باستعمال "المخزن". المصطلح قديم وعريق، بحيث يعود تاريخه إلى الدولة السعدية التي سبقت نشوء الدولة العلوية بالطّبع. مهما عدّدنا في المصطلحات المحيلة إلى الدولة العميقة، فإن العودة تكون إلى "المخزن" في نهاية المطاف، فالمخزن المغربي أثبت قدرة هائلة على التجدّد، وفق ما ظلّ يطرأ من تغيُّر في الأحوال عامة.

ومثلما كان يحصل في الدول غير الديمقراطية، شهد المغرب ممارساتٍ على مدى تاريخه الحديث، نالت من نزاهة الانتخابات، وبالتالي حطّت من شرعيتها. أما ونحن على أعتاب انتخابات سبتمبر/أيلول 2021، فقد أرخت تصريحات للأمين العام لحزب العدالة والتنمية، سعد الدين العثماني، في ندوة منظمة في جهة الرباط - سلا، أخيرا، ظلالا من الشك حول العملية الانتخابية القريبة، فمِمّا كان قد صرّح به، واستحقّ عليه غضب وزير حكومته في الداخلية، يمكن الوقوف عند مصطلح "الإدارة" في قوله: " لا شك في أن هناك من سيتبجّح، وسيجمع الناس بالمال والإغراءات، وسيتكئ على الإدارة لكي ينجح في بعض الاستحقاقات الانتخابية".

وإن جاءت تصريحات العثماني في سياق المُزايدة الانتخابية، كشكل من أشكال النّيْل من الغُرَماء السياسيين، إلا أن الحديث عن "الاتكاء على الإدارة" (والمقصود بها، هنا، وزارة الداخلية) يُراد منه الطّعن في الانتخابات من الآن. هل وردت تصريحات العثماني معزولة، خارج سياق ما يتمّ الإعداد له؟ إن شئنا تحديد أهم ملمحٍ للانتخابات المُقبلة، يمكن الوقوف عند القانون التنظيمي لمجلس النواب، المعروف باسم "القاسم الانتخابي". فيه، سيجري الاقتراع على أساس قاعدة المُسجَّلين في اللوائح الانتخابية، عوضا عن قاعدة الأصوات الصحيحة. ويعتبر "العدالة والتنمية" نفسَه المُستهدَف الأكبر من هذا القانون، لتقزيم وزنه الانتخابي المُفتَرض. وفي نظر مثقفين في الحزب، الإسلامي، يُتغيّا من اللجوء إلى الحسابات الرياضية (من قبيل القاسم الانتخابي) التحكّم في صناعة الخريطة الانتخابية، ومن ثم الخريطة السياسية، والتحالفات المُترتِّبة عنها.

تجري انتخابات سبتمبر في ظروفٍ شديدة التعقيد: اقتصاديا، اجتماعيا، حقوقيا وسياسيا

احتل "العدالة والتنمية" المرتبة الأولى، في الاستحقاقيْن الانتخابييْن الأخيريْن على التوالي، ما أهّله إلى تولّي رئاسة الحكومة لولايتين. ما ساعده في ذلك، إضافة إلى قاعدته "الإيديولوجية" الصُّلبة، كان العزوف الانتخابي بالدرجة الأولى. وما دام هناك استمرار في العزوف، فإن من المُتوقّع أن يتمكّن الحزب المذكور من التنافس، وإنْ في سياقٍ تتهاوى فيه شعبيته باستمرار. السياسات اللاشعبية التي انتهجها، والوعود التي أخلفها، تدفع كلها به إلى مصير سلفه، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. والفرق الذي لا يؤدّي إلى سقوط الحزب الإسلامي سقوطا مُدوِّيا هو تَوفُّره على كتلة ناخبة ثابتة وقارّة (بحكم التزامها الإيديولوجي). يبدو أن استمرار هذه الكتلة الناخبة القارّة، في ظل تراجع نِسب المشاركة الانتخابية، هو الذي يساعد الحزب على البقاء، ضمن الطلائع الأولى للأحزاب المُتنافسة.

يُسلِّمنا الاستنتاج السابق إلى طرح السؤال: كيف يمكن الحديث عن تمثيل "الإرادة الشعبية"، في وجود القاعدة الأكبر لغير المشاركين في العملية الانتخابية (منهم مقاطعون وحتى رافضون جذريون للعبة السياسية الحالية برمّتها)؟ في الواقع، أي نجاح لأي حزبٍ كان، اليوم، هو ذلك النجاح الذي يحققه "حزب المُقاطعين" وليس حزب "المُشاركين". بشكل تعميمي، هناك حزبان رئيسان فقط: "أقَلّوي" من المُقترعين، و"أكثري" من الرافضين للاقتراع. وإذ يطمئن "العدالة والتنمية" إلى قاعدته الوفيّة، تتنافس الأحزاب الأخرى على بقية المقترعين. ولكسر هذه القاعدة، جاء الحل مع "القاسم الانتخابي". من المتوقع ألا تخرج الخريطة الانتخابية عن طبيعتها "المُبَلقنة". ولذلك، لن يكون هناك حزبٌ بأغلبيةٍ مُريحة، كما لن تكون هناك حكومة بأطراف ذات انسجام مرجعي.

يأخذ الحديث عن التحكُّم في العملية الانتخابية، اليوم، صيغته الجديدة في ما سُمِّي "القاسم الانتخابي". وما من شك في أن يكون هذا القاسم حليف أحزاب ضعيفة ومتراجعة (مثل الاتحاد الاشتراكي). ومن هنا، يبدو من الصعب الحديث عن تلك "الانفتاحية" المطلوبة التي تمنح للتعدّدية الحزبية معنى ملموسا من جهة، وتمنح للتنافسية الانتخابية دلالتها الإيجابية من جهة ثانية. وبحسب ما ذهب إليه أحد المحللين السياسيين، فإن الخريطة الانتخابية قد تمّ إنجاز الشطر الأكبر منها، بحيث لم يتبقّ إلا مجرّد الثلث تقريبا. وبمعنى أوضح، سيكون مجال التنافس محدودا في المدن الصغيرة والقروية، ما دامت المدن الكبرى قد تمّ الحسم فيها سلفا.

فقدت الظاهرة الحزبية بريقها في المغرب، مثلما فقدت الانتخابات جدواها. وكم ستكون المهمة ثقيلةً على المتنافسين

تجري انتخابات سبتمبر في ظروفٍ شديدة التعقيد: اقتصاديا، اجتماعيا، حقوقيا وسياسيا. ونحن ما نزال نعيش زمن وباء كورونا، لا ينبغي إغفال أن هذه الانتخابات تنعقد في وضع اجتماعي مُتردٍّ، بسبب دورات مُتعدّدة من الحجْر الصحي، أدّت إلى الحدّ من الدينامية الاقتصادية (الضعيفة في الأصل). أما من الناحية الحقوقية، فالمغرب لم يشهد أية انفراجة ملحوظة" بعد، نتيجة استمرار اعتقال صحفيين، بفعل رفض مُتابعتهم في حالة سراح. ومن الناحية السياسية، تميّز المشهد المغربي بصدور "تقرير النموذج التنموي"، الذي يستدعي من الحكومة المقبلة الاشتغال ضمن أفقه. والبعد السياسي في هذا الأمر/ الحدث أن مثل هذا "النموذج" يسحب المبادرة من الحكومة التي يُفترَض أنها مُنتخبَة بإرادة شعبية، ويُنتظَر منها أن تُنفِّذ سياستها لإصلاح أوضاع البلاد.

من جهة أخرى، ما تزال البلاد تعيش أزمة حادّة مع إسبانيا، بعد استقبال الأخيرة زعيم الانفصاليين إبراهيم غالي. وبغير رغبةٍ منه، وجد المغرب نفسه في مواجهة أوروبا، بعد نقل قضية "اقتحام" المهاجرين سبتة ومليلية المُحتلَّتيْن إلى البرلمان الأوروبي. ولأن المغرب يُعدّ شريكا اقتصاديا كبيرا لفرنسا ولإسبانيا، ولدول أوروبا جميعا، فإن مُجريات الأحداث المقبلة ستختبر متانة العلاقات المغربية - الأوروبية، ما قد يُجنِّب تداعياتٍ اقتصاديةً واجتماعيةً وأمنيةً مُتفاقمة. ويمكن التشديد على التداعيات الاقتصادية بشكل خاص، في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، بحكم كونه الشريك الأكبر للمغرب. ولنا أن نتابع تَعثُّر أسباب التعاون مع ألمانيا، مثلا، خلال الأشهر القليلة الماضية، نتيجة موقف الأخيرة من الوحدة الترابية للمغاربة. وأمام هذا الواقع، يمكن التساؤل عن مدى ما تتيحه "سلطة القرار" للحكومة المقبلة، من أجل مُعالجة أسباب معاناة المواطنين، على جميع الأصعدة التي ذكرنا.

يمكن الزعم إن مرحلة حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة  قد راحت إلى غير رجعة

لقد فقدت الظاهرة الحزبية بريقها في المغرب، مثلما فقدت الانتخابات جدواها. وكم ستكون المهمة ثقيلةً على المتنافسين، حين يخرجون إلى "الشارع" من أجل الدعاية لبرامجهم الانتخابية. ستُفتَح الدكاكين الانتخابية هنا وهناك، وستُصرف أموالٌ طائلة على الدعاية الإعلامية، إلا أن لا مجال لـ "فتح" نقاش سياسي حقيقي. لا يكاد يُنتج مُعظم السياسة في المغرب، لما يفوق عقدا، خارج إطار التنافس الانتخابي وزمنه. وفي سياق حزبي، لا وجود فيه لمعارضةٍ فاعلة، يمكن تمثُّل درجة الركود السياسي في البلاد. لقد أخذت الأحزاب كلها تنأى بأنفسها عن "المعارضة"، باعتبار الأخيرة عاملا مُعجِّلا بموتها. ولذلك، بتنا نلاحظ توجُّه القرار الحزبي إلى المشاركة، بدل المعارضة، بأي ثمن.

يمكن الزعم إن مرحلة "العدالة والتنمية"، على رأس الحكومة، قد راحت إلى غير رجعة. البقاء لولايتين متتابعتين في الحكومة يكون قد أنهك الحزب، الإسلامي، في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. فلا "المخزن" بإمكانه تَقبُّل رئاسته الحكومة مرة ثالثة، ولا الفئات الغاضبة من المواطنين، وضمنهم الفئة الأكبر من المقاطعين للانتخابات. هل يكون المجال قد انفسح لرجل الأعمال، الملياردير عزيز أخنوش؟ من خلال التسخينات الانتخابية السابقة لأوانها، ومن خلال المناكفة السياسية التي يتعرّض لها من فريق العثماني، يبدو أن "التجمع الوطني للأحرار" سيكون له موعد مع أخنوش، على رأس الحكومة المقبلة، ففي ما فشل فيه الرئيس السابق لحزب الأصالة والمعاصرة، إلياس العمري، هل يمكن توقُّع نجاح مسعى أخنوش، في الطريق إلى رئاسة الحكومة، وإنْ بدون تشويق سياسي يُذكر؟ انتظارا لِما قد تفرزه صناديق الاقتراع، وأخذاً بعين الاعتبار ما تمّ تسجيله من ملاحظات، يمكن القول إن الممارسة الحزبية للسياسة، باعتبارها فعالية نبيلة لخدمة الصالح العام، في انحدار "أخلاقي" مُتواصل.