الاصطفاف مع مرتضى منصور

هذه ليست مزحة، إنما كلام جاد، أو هكذا حاول المحامي مرتضى منصور أن يبدو وهو يتحدّث على الهواء مباشرة، بعد الانقلاب العسكري على الرئيس السابق محمد مرسي، وبدء التجهيز لحكم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، عبر "انتخابات"، والانتخابات تحتاج منافسين (حقيقة علمية)، وقد أعلن منصور، وقتها، أنه "المنافس المنتظر"، وأن له رؤية وبرنامجاً ينطلقان من نقطتين أساسيتين: القضاء على الانهيار الأخلاقي الذي وصل إليه المجتمع المصري، والحكم بما أنزل الله، "فما أحلّه الله سأحلّه، وما حرّمه سأحرمه"، هكذا تحدّث مرتضى، صاحب السمعة "الأخلاقية" المعروفة.
كانت هذه التصريحات، في حينها، رزق الإعلامي الساخر باسم يوسف، واستخدمها في تقديم واحدة من أمتع فقراته، فأتى بـ"عيّنة" من تصريحات مرتضى ووضعها على ميزان "الأخلاق"، فطارت كفّة الضحك من أسوان إلى الإسكندرية. ربما تمنح سيولة أيامنا فرصة لمرتضى وغيره أن يقولوا ما شاءوا، متى شاءوا، أي شيء، أي كلام، مهما بدا مجافياً للمنطق، سواء على الشاشات، إذا كان الكلام يخدم توجّهات من يتحكّمون بها، أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وكله بثمنه. ليس المشكل هنا، إنما يبدأ حين يغيب الصوت الآخر، المحلّل، المفكّك، الناقد، الساخر، أو يجرى تغييبه بحجج دينية مثل التي استخدمها مرتضى، أو "وطنية" مثل التي يستخدمها محامون آخرون من وكلاء النظام الحالي، ويقع في شَرَكها بعض المصريين من غير المحسوبين على هذا النظام.
أصدرت الخارجية المصرية أول من أمس بيانا "معقولا" للردّ على تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بخصوص تهجير نصف مليون فلسطيني أو أكثر إلى مصر والأردن، وأكد البيان محورية القضية الفلسطينية، ودعم مصر الحق الفلسطيني، ورفضها اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم. لماذا أصفه بـ"المعقول" من دون الاندفاع وراء توصيفات حماسية من نوعية موقف وطني، وموقف شجاع، وموقف أصيل، كما جاء في تعليق حركة حماس؟ أولاً: لأنه كذلك بالفعل، بيان "حذر"، غاب عنه أي ذكر لترامب، أو نصّ تصريحاته، وعمد إلى التلميح والإشارة، كما أنه بيان خجول، كما وصفه الأكاديمي حافظ الميرازي، فلم يحضُر فيه وزير الخارجية المصري، كما لم يحضُر، في المشهد كله، الرئيس المصري، كعادته، وكما هو متوقّع، حين يصرّح الرئيس الأميركي، فليس أقل من أن يردّ عليه نظيره المصري، ولذلك فهو بيان معقول، وكفى.
ثانيا: لا يصحّ أن يدفعنا، أو يجبرنا، غياب المواقف الوطنية الجادّة عن خطابات النظام المصري الحالي وممارساته، منذ بداية الحرب، على أن "نرضى بقليلنا"، ونصف "تنقيط" المواقف بأنها السيل الجارف الذي سيزيح كل الخصوم وكل الأعداء وكل المؤامرات.
الأخطر في خطابات التهويل في وصف بيان الخارجية المصرية هو ما تحمله على هوامشها، وسرعان ما سينتقل إلى متونها، من ضرورة الاصطفاف مع النظام المصري في دفاعه عن فلسطين، إذ تُخبرنا تجاربنا السابقة "كلها" بأن تبرير الأنظمة الاستبدادية نفسها بأنها داعمة للحق الفلسطيني تؤول إلى ضياع الحق ورسوخ الأنظمة، وما نظام الأسد في سورية عنا ببعيد. كان موقف النظام المصري الحالي من دعم غزّة واضحا منذ بداية حرب الإبادة، ولا يمكن اختزاله في "كلام" عن رفض التهجير، إنما هي ممارسات على الأرض تمثلت في إغلاق المعابر، بما يعني المشاركة في حصار غزّة، وعدم الاستعداد لتحمّل أي تكلفة سياسية لتقديم المساعدة للمقاومة الفلسطينية، بل على العكس، حرّك النظام المصري خطابات إعلامية تصوّر مطالبة مصر بتقديم الدعم بأنها مطالبة لها بالحرب!.
يفرّق كاتب هذه السطور بين رأس الدولة في مصر وهيكلها، ويكاد يجزم أن داخل هذا الهيكل من هم على مستوى انحيازات شعوبهم، خاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فلا يمكن أن تخلو دولة بحجم مصر من هؤلاء. هذه التفرقة مهمة من حيث المبدأ، كما أنها ضرورية الآن في تنظيم هرمونات الوطنية المصرية، وحتى لا نجد أنفسنا أمام استحقاق "وطني" بالاصطفاف مع مرتضى منصور ضد "الانهيار الأخلاقي".