الاصطفاف أمام الأبواب المغلقة

17 يونيو 2025
+ الخط -

حين ينتزع أحد الضباط اعترافاً تحت التعذيب، فإن إحدى وسائله الرحيمة تغطيس رأس المواطن في الماء، ومنعه من التنفّس، فإذا أراد أن يعيد السؤال على المواطن رفع رأسه وتركه يتنفّس، ثمّ يتكلّم. وحين يُغطس المواطن، يتحمّل غياب الأوكسجين ثواني، ثمّ يبدأ في المقاومة، واستخدام كلّ ما لديه من قوة كي يُخرج رأسه، ويتنفّس. يفعل المواطن ذلك مهما علت وطنيّته، ومهما بلغ تقديره لرجال الشرطة البواسل، وإجراءاتهم الأمنية الاضطرارية، وجرائمهم الوطنية المُبرَّرة. يحدث ذلك لا إراديّاً، بحكم الفطرة، وبحكم الغريزة، ولذلك يأمر ضابط التعذيب رجاله بإحكام قبضتهم على المواطن حتى لا يفلت، ويعنِّفهم إذا استطاع المواطن "الفلفصة"، ولا يُعنِّف المواطن، ولا يُحمّله وزر الترفيص أو المقاومة، فهما من فطرة البقاء، إلى حدّ يفهمه حتى حضرة الضابط، ويراعيه في هندسة الألم.
ليس صعباً أن تتخيّل نفسكَ مكان المواطن، فأغلبنا هنا يتقاسم الغرق، ويعيش على أنفاس مؤجّلة، تحت "خط الأوكسجين". لكن تخيَّل أن حضرة الضابط لا يكتفي بتغطيسك، بل يطالبكَ بالاعتراف تحت الماء، وبمساعدة من يعذّبونكَ، وبأن تظلّ ساكناً، ممتناً، بلا مقاومة، بلا حركة، فماذا تفعل؟
يقيناً، لن تجد "بشرياً" يسعه الاستجابة لهذا الشرط، فهو فوق البشري. لكنّك سوف تجد من المؤيّدين، أو المعارضين الوظيفيين، من يتصوّرون في أنفسهم بعض "البشرية"، ومع ذلك فهم مع حضرة الضابط البيولوجي، ومع السادة المخبرين الوطنيين، ومع المواطنين الشرفاء، والبلطجية الشرفاء، والحاج إبراهيم العرجاني، يا فخر السيناوية الشرفاء. وسيطالبونك، من فوق الماء، بأن تتنفّس تحته. وحين تموت، لن يعدموا القدرة على "التسبيل"، وتحضير القشعريرة، وهم يهتفون أمام جثّتك: تحيا مصر.
هكذا أفهم دعوات الاصطفاف خلف السلطة في مصر الآن، سواء صدرت عن وسطاء بالأجرة، أو مجّانيّين، لوجه الوطن ومدام عفاف. فهي دعواتٌ واضحةٌ إلى الوقوف خلف القائد لمواجهة خطر ما، لو لم نجده لاخترعناه، وهو اصطفافٌ مشروط بأنه بلا شروط، وبلا أدنى مسؤولية على السلطة، فالمطلوب استغلال الظرف الإقليمي بمنتهى الانتهازية، للحصول على تفويض عام وشامل بفعل أيّ شيء، وكلّ شيء، من دون مساءلة، فالمساءلة خيانة، ومعارضة غير شريفة، وتهديد للأمن القومي. وافتح قوساً، وضع الإخوان المسلمين، والتنظيم الدولي، والمؤامرات الخفية، والتعقيدات التي لا تدركها سوى القيادة السياسية، وخبيرة الأبراج التي تظهر في برنامج عمرو أديب، ولا تغلق القوس.
تعرضت مصر في 5 يونيو/ حزيران 1967 لهزيمة مذلّة. ورغم ذلك، لم يفقد أغلب المصريين الثقة في جمال عبد الناصر، التفّوا حوله، ومنحوه فرصة. ولم يكن السبب إعلام عبد الناصر، كما يتصوَّر ضبّاط خطوط السمك والجمبري، بل جدّية المسار قبل الهزيمة، رغم الأخطاء، وجدّيته بعدها. بدأ عبد الناصر بنفسه، وتحمَّل المسؤولية وحده، وتنحّى، في اعترافٍ عملي بأنه لا يصلح. وحين أعادته مطالبات جماهيرية "حقيقية"، بدأ بإزاحة المتسبّبين في الهزيمة، وتغيير الوجوه، والسياسات، وإعادة بناء الجيش. تجدّدت الثقة، وتصاعدت، وسجّلت الكلّيات الحربية في فترة بين الحربين (1967- 1973) أعلى معدّل طلبات التحاق في تاريخها. ورغم أن هذا المسار لم يخلُ من أخطاء جسيمة، إلا أنه وجد من يسنده، ومن يتجاوز عن أخطائه، لأنه بدأ بإعادة الثقة، وأخذ بأسبابها الممكنة، وفتح بعض الأبواب قبل أن يطالب الناس بالدخول، ما يعني الحدَّ الأدنى من الإجراءات، وما قبل قبل البديهي من الممارسات (صعبة؟).
الفارق بين الوطنية الحقيقية والمغشوشة أن الأولى مرهونة بالعدالة، والثانية مرهونة بالسمع والطاعة. كما أن الفارق بين الاصطفاف الحقيقي والزائف أن الأول مصدره الثقة، والثاني مصدره الابتزاز. فإذا أرادت السلطة الحالية في مصر فتح باب الاصطفاف لا أحد يمنعها. افتحوا الأبواب، أبواب التفاهم، وأبواب الزنازين، وأبواب الممارسات السياسية الجادّة. أفرجوا عن المساجين، وأعيدوا المختفين قسرياً، وامنحوا المواطنين مسؤولين أكفّاء بدلاً من المصفّقين وهزّازي الرؤوس. وما هي إلا قرارات. لا نطلب مفاتيحَ، بل هواءً.. ارفعوا أياديكم لنرفع رؤوسنا ونتنفّس، ثمّ نتكلّم (ما المانع؟).