الاستقرار الليبي بين الواقع والمأمول

الاستقرار الليبي بين الواقع والمأمول

06 مايو 2021
+ الخط -

تحدّث علماء وفلاسفة كثيرون عن الاستقرار وماهيته بالنسبة للدولة الواحدة، وكذلك لعدة دول مجتمعة، إذ أخذوا يُقَلِّبون أساس الاستقرار وآليات وجوده وانعدامه في هذه الدولة أو تلك. ولعلّهم، في أحيانٍ كثيرة، يقصدون به "الاستقرار السياسي" باعتباره أساس نشأة الدولة أولاً، وتكوينها ثانياً، ثَمّ ارتقائها وتقدمها، وخير ما ذهب إلى ذلك الإمام الغزالي (ت 505 هـ) رحمه الله، إذ نراه يربط الاستقرار المجتمعي والسياسي للدولة بمُقوّم أساسي لها، وهو القوة. والتي يعبر عنها، في أحيانٍ كثيرة، بـ"قوة الحاكم" غير أنّه قرنَ مع القوة "الأهلية والشرعية" للحاكم، بخلاف غيره ممن رأى أنّ القوة قد تكون مُقوّماً ناجعاً في استقرار الدولة، بغض النظر عن الأهلية والشرعية لمن يمتلكها، ممن يرى أنّ القوة الحاكمة المكتسبة بأدوات القهر والطغيان تقود إلى الاستقرار!

عود على بدء... تمرّ دولة ليبيا اليوم بمرحلةٍ فارقة من عمرها، وعمر ثورة فبراير ( 2011) فيها، فبعدما اعتمدت حكومة الوحدة الوطنية أخيراً عبر مراحل حوارية وتوافقية، كان لزاماً عليها العمل على استقرار الدولة سياسياً ومجتمعياً شيئاً فشيئاً، وصولاً إلى مرحلة الاستقرار المرحلي على أقل تقدير، لأنّ الاستقرار التام ما زال بعيداً وإن نسبياً، والواقع المعاش في ليبيا سياسياً اليوم ما زال بعيداً عن الاستقرار المرحلي، باعتبار أنّ للاستقرار السياسي مرتكزات وعوامل عدة لإيجاده، قد تكون في مقدمتها "القوة العسكرية والأمنية" للدولة، المفقودة في الحالة الليبية، غير أنّ ذلك تسبقه مرتكزات للعملية السياسية حتى تُعبَّد الطريق نحو الاستقرار، ومن ذلك:

التقارب والتوافق: سواء بين المكونات السياسية للدولة ومدى انسجامها مع بعضها بعضا، أو مع العملية السياسية القائمة في البلاد وتبنيِّها والدفع بها نحو الأمام، وهذا لم يتأتَّ في ليبيا بعد، على الرغم من وجود حكومة واحدة في البلاد، إذ إنّ التيارات السياسية المعلنة وغير المعلنة ما زالت تتجاذبها، في تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح والمكاسب. وبالتالي، ما زالت الدوّامات السياسية تعبث بالبلاد، وإن أريد لها "نظرياً" غير ذلك.

تعتبر المصالحة الحقيقية ركيزة قوية لاستقرار الدولة والمجتمع في ليبيا، خصوصاً بعد التقلبات السياسية والأمنية، وحتى الاجتماعية

إيجاد حالة من الاستقرار المجتمعي: وذلك بإيجاد تدابير سياسية واقتصادية، وحتى ثقافية، تجعل من المجتمع أداة ضمان لنجاح العملية السياسية الانتقالية، والرافد الأول لها، فيكون هناك تفاعل حقيقي وبَنّاء بين المكونات المختلفة للمجتمع من جهة، وبين الحكومة والعملية السياسية القائمة في البلاد من جهة أخرى.

الاستجابة للتحدّيات: سواء أكانت هذه التحدّيات داخلية أم خارجية، بتقلباتها المختلفة، والعمل قدر الإمكان على تخطِّيها بخطواتٍ فاعلة على الأرض، ووضع الحلول الناجعة لها. هذا بالنسبة للتحديات الداخلية، أما الخارجية، الإقليمة أو الدولية، أي: المجتمع الدولي، فإنّها عادة ما تكون مرتكزة على المصالح "المطالب" والتهديدات، والتي تكون بإيجاد إيديولوجيات سياسية قادرة على دفع التهديدات، وجلب المصالح بالنسبة للدولة، وكذلك المجتمع الدولي، لضمان بناء حالة من الاستقرار والتهدئة.

المصالحة: تعتبر المصالحة الحقيقية ركيزة قوية لاستقرار الدولة والمجتمع، خصوصاً بعد التقلبات السياسية والأمنية، وحتى الاجتماعية التي مرت بها البلاد في السنوات الأخيرة، سواء أكانت هذه المصالحة بين مشروع السلطة الجديدة والموحدة في البلاد، حتى تصل بالمجتمع والدولة إلى مرحلة الانتخابات المقرّرة في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، أو المصالحة المجتمعية الحقيقية التي يجب أن تكون حاضرة بقوة، خصوصاً في هذه المرحلة من عمر الدولة، والتي بنجاحها تكون الدولة قد أخذت الخطوة الحقيقية والفاعلة والبنَّاءة نحو الاستقرار وبناء الدولة.

من أسباب غياب الاستقرار في أيّ بلد الصراع "الشخصي" على السلطة، ومحاولة صناعة ديكتاتورية جديدة بطريقة أو بأخرى

وبالتالي، فإنّه مما ذكر يتّضح أنّ الاستقرار السياسي والمجتمعي للدولة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع والدولة ومدى انسجامهما بعضهما مع بعض، باعتبار أنّ المجتمع والشعب هو من يدافع عن العملية السياسية، والدفع بها نحو الأمام والنجاح، والعكس هو الصحيح، كما أنّ أيّ استقرار سياسي لا بد أن يكون مقروناً بالمشاركة السياسية من التيارات المختلفة في البلاد، وأن تكون موجودة في صناعة القرار، لأنّها تشكّل إطاراً مهماً للعملية السياسية، خصوصاً في الحالة الليبية، باعتبار أنّ الذي أوجد الحكومة الواحدة للبلاد هو الحوار والتوافق. وفي المقابل، لا يمكن جعل العملية السياسية في البلاد رهينة التقلبات والمصالح الضيقة للتيارات السياسية والتوجهات المختلفة، والتي عادة ما تغذّيها أطراف خارجية.

وأخيراً، من أسباب غياب الاستقرار في أيّ بلد هو الصراع "الشخصي" على السلطة، ومحاولة صناعة ديكتاتورية جديدة بطريقة أو بأخرى، وهو ما يغذّي الصراع الذي أنتج في سنوات الاختلاف، ومحاولة المحافظة عليه، ليكون واقعاً يتم من خلاله تمرير الأجندة، أو حتى العودة بالدولة إلى نقطة الصفر، وانعدام الاستقرار.