الاختطاف في سورية سلاحاً لتحطيم النساء والمجتمع
(عاشور الطويبي)
في أعماق الجراح السورية التي لم تلتئم بعد، ينبعث صوت حملة إلكترونية بعنوان "أوقفوا خطف السوريات"، صرخةً يائسةً وثائرةً في آن، انطلقت لتكشف نمطاً ممنهجاً من الاختطافات يستهدف النساء من الأقليات خاصةً، في مناطق مثل اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة. ليست هذه مجرّد جرائم فردية أو حوادث عشوائية، بل هي استراتيجية مدروسة للإساءة إلى الشرف والسمعة معاً، تهدف إلى تحطيم النساء وعائلاتهن، وتفتيت النسيج الاجتماعي والسياسي للوطن الذي يتفكّك.
منذ اندلاع الثورة السورية في 2011، أصبح الاختطاف سلاحاً شائعاً في الحرب غير المتكافئة. كان النظام السابق يستخدمه لإسكات المعارضين، بينما لجأت فصائل مسلّحة إليه لتمويل عملياتها أو وسيلةً للانتقام. وبعد سقوط نظام الأسد في نهاية 2024، تحوّل الاختطاف نمطاً ممنهجاً، يستهدف النساء رمزاً للخصم السياسي والاجتماعي. وفق تقارير حقوقية وصحافية، سُجّلت عشرات الحالات (تجاوزت 50 حالة موثّقة) من ديسمبر/ كانون الأول 2024 حتى الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، مع تركيز على النساء العلويات في الساحل السوري، فقد ذكرت منظمة العفو الدولية أنها تلقّت من ناشطتين وصحافيين ومنظمة حقوقية مستقلة معنية بالنساء السوريات تقارير عن 28 حالة اختطاف، ثم أطلق المختطفون سراح 14 منهم، وما زال مصير الباقيات ومكانهن طي المجهول. ويُعتقد أن الدوافع تشمل الفدية والزواج القسري والاتجار بالبشر، أو ببساطة: الإذلال الطائفي.
ليس الخطف في سورية جريمةً عابرةً، بل رمز لانهيار الإنسانية وتفكّك الروابط الوطنية
ليست هذه التحوّلات مصادفة. في مجتمع شرقي يُقدّس الشرف العائلي، يصبح الخطف لا مجرّد اعتداء جسدي، بل أيضاً هجوماً نفسياً يمتدّ إلى العائلة بأكملها. وثّقت قوائم النشطاء ضحايا من فتيات في سنّ المراهقة مثل هبة أيهم ناصر (14 عاماً) وسيما سليمان حسنو (14 عاماً)، ونساء في منتصف العمر، مثل بشرى ياسين المفرّج ولانا محسن حمّود. هؤلاء لسن أرقاماً، هنّ أمهات وأخوات وبنات يُختطَفن في وضح النهار أمام الحواجز أو من أبواب منازلهن، تاركاتٍ وراءهن عائلات تئنّ تحت وطأة الخوف ووصمة العار الاجتماعية. ففي الثقافة العربية (والسورية طبعاً) يُعتبر شرف المرأة عموداً أساسياً للهُويَّة العائلية والقَبَلية. هنا تكمن الرمزية الاجتماعية للاختطاف: إنه ليس سرقة جسدٍ وحسب، بل سرقة للكرامة الجماعية.
تستغلّ "الأدمغة المتحجّرة" (سواء من متطرّفين جهاديين أو مجموعات انتقامية) هذه الرمزية لتحطيم النساء وعائلاتهن. الضحية تُصبح "مُشوَّمة" اجتماعياً، ما يدفع عائلاتها إلى الصمت خوفاً من الوصمة، أو التعاون القسري مع الجُناة لاستعادتها. يمتدّ هذا التحطيم إلى المجتمع بأكمله. في قرى جبال الساحل، حيث تُبنى العائلات على التقاليد المحافظة، يؤدّي الخطف إلى فقدان التماسك العائلي، وكسر "الرجولة" أمام النساء، وإشاعة جو من الرعب يُنتج البطالة والفقر، خصوصاً أن النساء العلويات كُنَّ مشاركات نشطات في سوق العمل قبل الحرب. في النتيجة، نجدنا أمام حالة تفكّك اجتماعي يجعل المجتمع عرضةً للانهيار، فيُصبح الخوف من الخطف جزءاً من الحياة اليومية، وتغلق النساء أبوابهن، محرومات من حرّيتهن. هكذا، يحوّل المتطرّفون الاختطاف سلاحاً يُدمّر النساء من الداخل، مستغلّين الوصمة ليجعلوا الضحية تُعاقب مرَّتَين: مرّةً بالخطف، ومرّةً بالمجتمع الذي يرفضها بعد الإنقاذ.
سياسياً، يتجاوز الاختطاف الجريمة الفردية ليصبح أداةً للانتقام الطائفي والسياسي. في سورية ما بعد الأسد، حيث تسيطر فصائل إسلامية متطرّفة على مناطق واسعة، يُستخدَم الخطف لإذلال "الآخر"، خصوصاً السوريين العلويين، الذين يُرتبطون تاريخياً بالنظام السابق. الغرض واضح: طرد الأقليات وكسر إرادتهم وإجبارهم على التعاون الأمني أو الهجرة. كما يقول نشطاء: "الخطف ليس جنائياً فقط، بل طائفياً وانتقامياً، يهدف إلى تفجير النسيج الوطني". تكشف هذه الرمزية عجز السلطات الحالية في دمشق عن ضبط الأمن، فتُنكر الحملات المضادّة الطابع الطائفي معتبرةً الخطف "تهديداً للسوريين كلّهم"، بينما تتقاعس عن التحقيق في مئات الحالات. هنا، يصبح الخطف رمزاً لفشل الدولة الجديدة في حماية مواطنيها، وأداةً للنيل من الخصوم السياسيين عبر إضعاف قواعدهم الاجتماعية. إنه ليس مجرّد جريمة، بل استراتيجية لإعادة رسم الخريطة الطائفية، لتُصبح النساء "غنائمَ" في حرب غير مُعلَنة.
أمام هذا الجحيم، برزت الحملة منارةَ أمل، مدعومةً بنشطاء وناشطات يطالبون بتحقيقات مستقلّة، وكشف مصير المختطفات، ومحاسبة الجناة. من خلال منصّات مثل "إكس"، انتشرت قوائم الأسماء والشهادات والفيديوهات محوّلةً الصمت صرخةً عالمية. لكن التحدّي كبير: حملات مضادّة تشكّك في الروايات، مستغلّةً حالاتٍ فرديةً لنزع المصداقية، ما يعكس الصراع على السرد السياسي.
الخطف رمز لفشل الدولة الجديدة في حماية مواطنيها، وأداة للنيل من الخصوم السياسيين بإضعاف قواعدهم الاجتماعية
رغم ذلك، تُثبت الحملة أن السوريات لسن ضحايا سلبيات، هن صانعات مقاومة، يرفضن الاستسلام ويطالبن بحماية من العنف والاغتصاب والزواج القسري. ليس الاختطاف في سورية جريمة عابرة، بل رمز لانهيار الإنسانية، إذ تُصبح النساء أول ضحايا "الأدمغة المتحجّرة" التي تسعى إلى تحطيم الخصوم عبر إذلال شرفهن. إنه يُذكرنا بأن السلام الحقيقي لا يُبنى على تفكيك العائلات أو تفتيت المجتمعات، بل على حماية الكرامة للجميع.
من أجل استعادة كرامة السوريين، ومن أجل تعزيز مفهوم المواطنة الشاملة، على المجتمع السوري بأطيافه كافّة الاتفاق على أن خطف أيّ امرأة سورية، مهما كان أصلها الطائفي أو الإثني، هو إهانة لكل فئات المجتمع، وللمرأة السورية في كل مكان. فإهانة المرأة العلوية إهانة للدرزية وللسُّنّية وللكردية... وإهانة المرأة الدرزية إهانة للعلوية وللسُّنّية وللكردية... النساء في سورية لا يمكن أن يساهمن في الشراكة الوطنية، أو يمارسن أدوارهن الطبيعية في الحياة السياسية والاجتماعية واليومية بجميع تفاصيلها، ما دام ثمّة امرأة واحدة من أي مكوّن سوري تشعر بالخطر والخوف والتهديد على أمنها وأمن عائلتها.
من أجل أن يشعر السوريون (نساءً ورجالاً) بكرامتهم وانتمائهم إلى سورية، يجب وقف خطف النساء فوراً، لخلق بيئة آمنة نتحرّك فيها جميعاً، ونمارس أفكارنا ونشاطاتنا، من دون خوف من عقاب جماعي يقع على جنسنا نساءً، أو على منابتنا الإثنية والطائفية (سنّيات كنا أم علويات أم درزيات)، أو حتى على أصولنا الدينية والقومية، مسيحيين أو مسلمين أو كرداً.