الاحتجاجات ضدّ "حماس" إخبارياً
تظاهرة احتجاج في بيت لاهيا شمال قطاع غزّة تطالب بإنهاء الحرب (26/3/2025 فرانس برس)
غالباً ما تُتَّهم حركة حماس بتلقّي الدعم من إيران، وهي لا تنفي تهمةً كهذه، كما أنها تُتَّهم بتنفيذ "الأجندة الإيرانية"، وهذه فيها وجهة نظر، خاصّة أنها ليست حزب الله، بمعنى الارتباط العضوي والأيديولوجي، فتلقّي الدعم لا يعني التماهي ولا تبنّي الأجندة الإيرانية، وإن كان يعني التقاطع السياسي على هدفٍ واحد، ما يجعل حركة حماس "تخدم" هذه الأجندة بما يتوافق وأهدافها، وخدمة الأجندة لا تعني، في المناسبة، تبنّيها بالكامل، فمعارضة كثيرين الحركة نفسها لا تعني أنهم مع إسرائيل وأهدافها التي تسعى لتدمير الحركة وأيّ فصيل فلسطيني آخر. ... لكن من يتّهمون "حماس" بالتبعية لإيران (وهم كُثر في المنطقة)، تبنّوا بأنفسهم شعاراتٍ محض إيرانية ضدّها الأسبوع الماضي، والإشارة هنا إلى احتجاجاتٍ في غزّة ضدّ الحركة والعدوان والاحتلال، ردّد بعض المشاركين فيها شعاراً يقول "حماس برّا برّا"، ما يعني مطالبتهم بخروج الحركة من قطاع غزّة، أو على الأقلّ من المشهد السياسي فيها، غير أن تمحيصاً في تاريخ الشعار وصياغات الخبر في وكالتي رويترز وفرانس برس، وهما مصدرا ما لا يقلّ عن 90% من أخبار وسائل الإعلام في المنطقة، تفيد بأن الاحتجاجات، وهي عفوية على الأغلب وحقٌّ لا ينازع لمن قام بها، سُيّست بطريقةٍ فجّةٍ تكشف أن ثمّة أجندات غير مبرَّأة من الغرض وراء تغطيتها على النحو الذي ظهرت فيه.
استُخدم شعار "حماس برّا برّا"، وهو غير شائع أو شعبي، للمرّة الأولى في إيران خلال احتجاجات الحركة الخضراء ضدّ فوز محمود أحمدي نجاد في انتخابات 2009 الرئاسية، للدلالة على رفض المحتجّين (أنصار مير حسين موسوي الذي خسر تلك الانتخابات) أولويات نجاد، ومن ورائه مرشد الجمهورية، ثمّ انتقل الشعار (وقد أصبح إيران برّا برّا) إلى لبنان في احتجاجات 2019 و2000، ما يعني أن تبنّيه ليس عفوياً، وينتقل مثل الحمّى والأنفلونزا على شاكلة شعار "الشعب يريد إسقاط النظام".
يضاف إلى هذا أن تقرير "رويترز" المُطوّل عن احتجاجات غزّة (26 مارس/ آذار 2025) تحدث عن احتجاج "مئات" الفلسطينيين للمطالبة "بإنهاء الحرب"، مردّدين هتافات "حماس برّا برّا"، كما تحدّث عن لافتاتٍ رُفعت تقول "أوقفوا الحرب" و "يكفي نزوحاً". أمّا وكالة الصحافة الفرنسية (فرانس برس)، فتحدّثت في تغطيتها عن "مئات" المحتجّين، كما أوردت هتافاً آخر يقول "الشعب يريد إسقاط حماس"، لكنّ الوكالتَين لم تذكرا أبداً أن آلافاً شاركوا في الاحتجاجات، وهو ما فعلته قناة العربية أو شقيقتها قناة العربية - الحدث، وقريباتها في الدم والذمّ الأخريات، التي تحدّثت عن "آلاف" المحتجّين، وتجاهلت وجود هتافاتٍ أو شعاراتٍ أخرى تُلقي باللائمة على إسرائيل. وليس الاعتراض هنا على تناول تغطية هذه القنوات للاحتجاجات ضدّ "حماس"، فهذا حقٌّ أصيل للإعلام، اليوم أو غداً، بل على الانتقائية المُخلّة والمُضلِّلة التي تخالف معايير الصحافة وأخلاقياتها.
وللتوضيح ليس أكثر، هناك أخبارٌ كثيرة تُنشر وهي صحيحة، ولكنّها ليست دقيقة، والتفريق هنا ضروري، لأن ثمّة ثغرة ما بين الصحّة والدقّة تسوّغ لدى بعض الزملاء نقل الخبر إلى منطقةٍ أخرى، تضخيماً أو تهويناً، فصحيحٌ مثلاً اختيار عنوان من شاكلة "انقلاب في الخرطوم"، في صحيفة محلّية لخبرٍ عن انقلاب حافلة في الخرطوم، إذا كان مرفقاً بصورة الحافلة، لكنّ العنوان يظلّ غير دقيق إخبارياً في توقيتٍ سياسيٍّ معيّن كالذي يمرّ به السودان حالياً، ما يُفهم منه بأنه انقلاب على رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتّاح البرهان، وفي هذه الحالة يصبح تضليلاً ولمصلحة قوات الدعم السريع، التي تناوئ البرهان العداء.
هل ثمّة مبالغة؟... أبداً، خاصّة أن القارئ قد يكتفي أحياناً بالعنوان، ما لم يكن معنياً، أي سودانياً متورّطاً في السياسة في حالة المثال المضروب، و"العربية" لم تلعب في العنوان وحسب، بل والخبر أيضاً، فقد تحدّثت عن آلاف المحتجّين وليس المئات منهم، ثمّ عزلت الخبر من سياقه العريض، وحصرته في سياق أضيق، وهو "حماس"، وليس العدوان والاحتلال و"حماس" معاً، ما يعني انتهاكاً فجّاً لأخلاقيات المهنة باستغلال أدواتها، والقول إن هذه هي الصحافة يا قوم، وهذه أدواتها ووسائلها لجذب المتلقّي إلى هذه الوسيلة الإعلامية من دون تلك.