الإمارات وسد النهضة: استنساخ "كامب ديفيد"

الإمارات وسد النهضة: استنساخ "كامب ديفيد"

14 مايو 2021
+ الخط -

لم يعد بالإمكان الآن فهم مشكلة سد النهضة ومحاولة استشراف مآلاتها، من دون وضعها ضمن سياق أوسع زمانًا ومكانًا. وخلال الأشهر القليلة الماضية، تراكمت معطيات عديدة على وجود تصوّر لمستقبل القرن الأفريقي ومصر والسودان، له ملامح شديدة الوضوح، والأهم أنها شديدة الخطر.

يؤكد التدخل الإماراتي المتكرر خلال الفترة القصيرة الماضية أن السد بدأ بالفعل يُستخدم لتغيير "الجغرافيا السياسية" للمنطقة، على نحو لا يمكن أبدًا أن يكون مطروحًا كـ"مخرج من أزمة"، إنه مخطّط ممتدٌ زمانًا ومكانًا، ويريد له أصحابه أن تكون تأثيراته في نوعها وحجمها أكبر من تأثيرات اتفاقية كامب ديفيد، بتداعياتها المستمرة. والمتوفر من معلومات عن المخطط يتضمن تغيير خرائط السودان وإثيوبيا، وتكريس تقسيم الصومال، ومنح إثيوبيا وجودًا عسكريًا بحريًا على البحر الأحمر.

من المستغرب أن تطرح دولة عربية حلًا يحوِّل أرضًا مملوكة للسودان إلى "أرضٍ مُتنازَعٍ عليها"!

وإثيوبيا، الدولة التي تحولت إلى "حبيسة" باستقلال إريتريا عام 1993، تستعمل ميناء جيبوتي منفذًا بحريًا، لكن شركة موانئ دبي العالمية وقعت اتفاقًا مع الحكومة الإثيوبية لإقامة ممر تجارة يصل إلى إقليم أرض الصومال غير المعترف به. وتعني الخطوة أن الإمارات ستوجد مصالح لدول أخرى في منطقةٍ لا يعترف العالم بوضعها الانفصالي، وهي بذلك تلحق ضررًا بليغًا بالصومال. وما يوصف بأنه "حل إمارتي" للأزمة يتجاوز ما يمكن أن يقوم به "وسيط"، بل يتجاوز ما يمكن أن تفعله قوة احتلال.

تريد الإمارات استخدام سد النهضة "كسّارة جليد"، ستكون النتيجة الرئيسة لاستخدامها في تغيير معطيات رئيسة على الأرض. وتاليًا، السيطرة على القرار السياسي في إثيوبيا والسودان ومصر، كلٌ منها بطريقة. نواة الفكرة أن تتنازل السودان عن ملكية نصف منطقة الفشقة المقام عليها السد، وهي أرضٌ تنازلت السودان لإثيوبيا عن الحق في إدارتها مقابل الالتزام بالامتناع عن بناء سدود على النيل. وبهذا الاقتراح، تقدم الإمارات لإثيوبيا، مجانًا، حل المشكلة الأكثر تعقيدًا في ملف السد. في المقابل، تتحوّل منطقة الفشقة كلها (ما تتنازل عنه السودان وما تحتفظ به) إلى منطقة استثمارات، ما يعني خطوة ثانية في تقزيم خريطة السودان بعد انفصال الجنوب، ولكن هذه المرّة بحضورٍ لأطراف إقليمية، في مقدّمتها الإمارات طبعًا، ومؤسسات دولية، في مقدمتها البنك الدولي والاتحاد الأوروبي. والحديث هو عن "تنازل سوداني" من دون أي حديثٍ عن تنازل إثيوبي، فضلًا عن الإهمال شبه التام لمصر وحقوقها المائية. وبناءً على ما تقدَّم، كل ما هو مطلوب من مصر التمهل وخفض سقف التصعيد. أما المعروض فلا شيء. أحد التعليقات السودانية الرسمية كاد أن يشبّه "الحل الإماراتي" بالحلول الصهيونية، مستغربًا أن تطرح دولة عربية حلًا يحوِّل أرضًا مملوكة للسودان إلى "أرضٍ مُتنازَعٍ عليها"!

"كامب ديفيد" الثانية التي ترعاها الإمارات، وتشتري الوقت لتجعلها "الفرصة الأخيرة الممكنة"، ستجعل "المال" صاحب الكلمة العليا

و"كامب ديفيد" الثانية التي ترعاها الإمارات، وتشتري الوقت لتجعلها "الفرصة الأخيرة الممكنة"، ستجعل "المال" صاحب الكلمة العليا في مستقبل دولٍ ثلاثٍ، بحيث يصبح فوق السيادة والدساتير والقوانين ومقتضيات الأمن القومي. وسيفضي هذا المنحدر إلى تكريس الوضع غير القانوني في الصومال، وسيتحوّل، صراحة أو ضمنًا، إلى جهة اصطفاف إقليمي ستكون له أوخم العواقب. إن حقيقة أن إثيوبيا "دولة حبيسة" تجعل قدرة مصر على القيام بعمل عسكري ضدّها محدودة جدًا، وما تقوم به الإمارات الآن أنها تجعل لإثيوبيا منافذ بحرية، والأكثر غرابة ما ينشر عن إنشائها "قوة بحرية"، وهو من ثمار التعاون الإثيوبي الإماراتي.

لقد تحوّل القرن الأفريقي، خلال السنوات القليلة الماضية، إلى ساحة تدافع تزدحم بالخصوم، والمصالح المصرية والسودانية المرتبطة بالقرن الأفريقي كثيرة ومعقدة. وموطئ القدم الذي حصلت عليه الإمارات فيه، وتسعى إلى توسيعه بقوة، لم يحقق نفعًا حقيقيًا، لا لشعوب القرن الأفريقي ولا للجوار، وهي ليست اللاعب الوحيد هناك، لكنها أكثر اللاعبين عدوانية.