الإقصاء... دائرة لا تنتهي من الظلم

20 مارس 2025

(صالح المالحي)

+ الخط -

يحدُث أحياناً أن نجد مَن ذاق مرارةَ الإقصاء يمارس الإقصاء نفسه على غيره، وكأنّ الألم الذي عايشه لم يكن درساً، بل تحوّل وقوداً لرغبةٍ دفينةٍ في الانتقام. ترى شخصاً حملته الأقدار إلى زاويةٍ معتمة، يشعر بأنه منبوذٌ أو محروم من فرص عادلة. ولكن، ما أن تسنح له الفرصة، حتى يضع الآخرين في الزاوية نفسها، كأنّ المبادئ ليست سوى سلاحٍ يُشهر حسب الحاجة، وكأنّ العدل ليس قيمةً ثابتةً، بل ترفٌ يمكن التخلّي عنه حين تصفو له الحياة.

ليس الإقصاء مجرّد قرار بحرمان شخصٍ من حقه في الوجود، بل فعلٌ يُحدِث شرخاً في النفس، يزرع في الروح شعوراً بالدونية أو الحقد أو الإحساس باللاجدوى. حين يُقصى المرء، يشعر كأنّه عالقٌ في عالم لا يعترف به، عالم يتجاهل صوتَه وأحلامَه، وكأنّ وجودَه لا يهم. لكن الأخطر أن هذا الإحساس لا يتلاشى، بل يترسّب في القلب جُرحاً مفتوحاً، يتغذّى من كلّ خيبةٍ جديدة، وكلّ فرصةٍ ضائعة، وكلّ نظرة تقلّل من شأنه. وحين يأتي الوقت المناسب، حين يصبح هذا المُقصى في موقع قوة، يجد نفسه في مواجهة سؤال جوهري؛ هل يعيد إنتاج الظلم ذاته، أم يكسر الحلقة؟

ما يحدُث غالباً أن كثيرين لا يملكون الشجاعة لكسر الحلقة. يتصرّفون كما لو أن الحياة لعبة انتقام، وكأن العدالة لا تُطلب إلا حين يكونون الضحية، لكنّها تصبح خياراً قابلاً للتفاوض، حين يكونون الجلّاد. ليست هذه الازدواجية سوى انعكاسٍ لألم غير محلول، لجراحٍ لم تُشفَ، لوعيٍ لم ينضج كفايةً ليقاوم غواية الثأر. فالإقصاء يولّد شعوراً بالعجز، والعجز يتحوّل غضباً، والغضب يبحث عن منفذ، وأيسر المنافذ  إعادة إنتاج الظلم على شخصٍ آخر، كأنّ هذا الألم كلّه لا يجد وسيلةً للتعبير إلا بأن يُورَّث لغيره.

لكن هل يمكن لمجتمع أن ينمو في ظلّ هذه السلسلة من الإقصاء المتبادَل؟ كيف ننتظر من واقعٍ كهذا أن يتحرّر من أزماته إذا كانت كلّ فئة تنتظر دورها في السلطة لا لتصلح، بل لتنتقم؟... الإنصاف قيمة لا معنى لها إن لم تمارسها وأنت قادر، أمّا أن تطالب بها وأنت ضعيف، ثمّ تهملها حين تقوى، فذلك ليس مبدأً، بل انتهازية.

ليست القوة الحقيقية في القدرة على ردّ الظلم بالمثل، بل في القدرة على إيقاف دوّامة الظلم. أن تكون قادراً على الإقصاء ثمّ تختار عدم ممارسته، أن تملك القوة على الانتقام ثمّ تعفو، أن تتذكّر كيف كنت حين كنت في الهامش، فتقرّر ألا تضع غيرك فيه. هذا هو الفرق بين من تعلّم من ألمه ومن سمح لألمه أن يشوّهه.

المبادئ الحقيقية لا تخضع للحالات الفردية، ولا تتحوّل ورقة تفاوض. تُمارَس دائماً، حتى حين تكون صعبةً، حتى حين يبدو التخلّي عنها مغرياً. أمّا من يستخدمها حين تناسبه فقط، فهو لا يملك مبادئ، بل مجرّد مصالح متقلّبة.

ربّما يحتاج المرء لحظة مواجهةٍ مع نفسه، لحظة يسأل فيها؛ ماذا لو كنت أنا الطرف الآخر؟ ماذا لو كنتُ أنا من يتعرّض الآن لما أمارسه على غيري؟ هل سأقبله؟ هل سأجده عادلاً؟... إن لم تكن الإجابة نعم، فربّما حان الوقت لكسر الحلقة، لإنهاء هذه المتوالية من الألم والإيذاء، لإيجاد واقعٍ لا يقوم على التناوب في ممارسة الظلم، بل على اجتثاثه من جذوره.

الإقصاء، إذن، ليس مجرّد فعلٍ يمارسه فردٌ ضدّ فرد، بل ثقافة تصنع مجتمعاً مشوّهاً لا يرى الحياة إلا معركةً، ولا يفكّر إلا في دوره المقبل في الانتقام، ولا يتخيّل العدالة إلا حين يكون مستضعفاً، ولا يرى فيها ضرورةً حين يمتلك القوة.

لن يزدهر مثل هذا المجتمع أبداً، لأنه مشغول بمعاركه الداخلية بدلاً من الانشغال ببناء شيءٍ حقيقي. والمرء الذي اختبر الظلم عليه مسؤولية مضاعفة، مسؤولية ألا يتحوّل نسخةً أخرى من جلّاده. ليس لأنه بذلك يفقد إنسانيته فقط، بل لأنه يشارك في استمرار النظام نفسه الذي أسقطه يوماً.

وإذا كان هناك درس واحد يجب أن يتعلّمه مَن مرّ بتجربة الإقصاء، فهو أن الألم ليس سلاحاً، بل رسالة مفادها أن هذه الدائرة يجب أن تُكسر، وإلى الأبد.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.