الإعلان الدستوري المؤقت وغياب أهداف الثورة

16 مارس 2025
+ الخط -

صدّق الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، على إعلانٍ دستوري، لم يتضمّن كلمة مؤقت، وصار نافذاً. أشارت مقدمته إلى بيان النصر والبيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني والاستئناس بدساتير سابقة، ولكنها لم تشر إلى أهداف الثورة الشعبية في الانتقال نحو الديمقراطية، وقد خلا البيان من ذكرها، وأصبح الكلام عن الحرية والكرامة، وفقاً لمشيئة الإدارة الجديدة، وجاء الإعلان المؤقت بما يتناسب مع مصالح الإدارة ورئيسها. كذلك فإنه جاء بعد مشكلات أمنية ومجازر حدثت في مدن الساحل السوري، وكذلك بعد اتفاقٍ مع زعيم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية، مظلوم عبدي، وبعد جدلٍ صاخب مع قوى وفصائل عسكرية في السويداء. وكان يُفترض بالإعلان ألّا يشير إلى البيان الختامي، ولا إلى بيان النصر، فهما لم يمثلا الشعب، بل مثلا مصالح الفصائل العسكرية والإدارة، وكان دور الشعب فيها شكليّاً، ولم يبدِ رأيه.

انفجار الساحل دليل على غياب الحوار الوطني، ورفض الإدارة الذاتية الكردية الإعلان الدستوري، حالما صدر، وكذلك صدور مواقف من السويداء تقترب من الرفض، وأيضاً هناك انعدام كبير في الثقة من أهل الساحل خصوصاً، ذلك كله يوضح أن الإعلان لم يعد الصلة بالشعب، بل زاد الفجوة مع الإدارة، حينما غُيّب دوره في كل نصوص الإعلان.

مواد كثيرة في الإعلان المؤقت تُمركز السلطات بيد أحمد الشرع، فهو من يعيّن ثلث المجلس التشريعي، وهو من يشكّل لجنة انتخابية لتنتخب بقية أعضائه، وهو من يعيّن الوزراء، ولم يرد في النص كلام عن رئاسة مجلس الوزراء، وهناك توقعات بأن يترأسه هو، وهو من يعيّن قضاة المحكمة الدستورية، ولم ترد كلمة الانتخابات في بنود الإعلان، وغاب دور الشعب في الاستفتاء على مسودة الدستور في نهاية المرحلة الانتقالية. ويأتي طول مدتها، خمس سنوات، دليلاً إضافيّاً على خطورة تحكّم الرئيس الانتقالي بالدولة وبكامل السلطات، وكان يمكن الاكتفاء بعامين أو ثلاثة على أقصى تقدير.

وأثارت المادّة الـ23 نقداً كثيراً، فهي تلغي تقريباً كل مواد الحريات والحقوق، باسم "الأمن الوطني وسلامة الأراضي والسلامة العامة وحماية النظام العام وحماية الصحة والآداب العامة" وهناك المادة الـ14، وتنصّ على تشكيل الأحزاب والمشاركة السياسية وفقاً لـ"أسس وطنية وفق قانون جديد". وهنا، أيضاً، احتكار للمجال السياسي العام، فمن سيضع الأسس الوطنية هذه، وما هي؟ ومن سيضع القانون الجديد للأحزاب وللمشاركة السياسية مثلاً؟

في وقتٍ تؤكّد فيه نصوص الإعلان الحفاظ على الملكية الخاصة، تتجاهل الحديث عن ملكية الدولة، أو عن مجانية التعليم بكل مراحله، والطبابة المجانية لملايين العاطلين من العمل أو الفلاحين مثلاً. ويعني غياب النص الواضح لهذه القضايا أنّها ستكون عرضةً للشطب والبيع، ومن دون أن تُعرض على الشعب، بأن يقرّر هو مصير هذه الملكيات أو الحقوق في التعليم المجاني أو الطبابة، وهذا بمثابة إقصاء إضافي لدور الشعب. ... وينطلق هذا النقد من السياسات التي أعلنتها الحكومة المؤقتة، وتؤكد هذا المنحى.

الإدارة تتجه نحو احتكار كامل السلطات، وغياب أية استقلالية لها، وبالتالي، يُشكل هذا الإعلان بداية التأسيس لدكتاتورية جديدة

لم ترد في الإعلان أيّة مواد عن السيادة الشعبية، ففي دستور 1950، تقول مادة: "تقوم السيادة على حكم الشعب بالشعب وللشعب". قامت الثورة الشعبية لاستعادة دور الشعب في تقرير مصير البلاد، ولكنه، بعد أن غاب عن مؤتمر النصر والحوار الوطني ها هو يُغيّب مجدّداً عن بنود الإعلان، وكذلك عن مجلس الشعب المؤقت، المقرّر تشكيله، ويَخشى الشعب السوري حالياً ألّا يتمثل ثقاته والشخصيات الوطنية الوازنة من الحكومة الانتقالية، المزمع تشكيلها، وفقاً لخطة الرئيس أحمد الشرع في المرحلة الانتقالية.

تكمن أهمية الإدارة وكل خطواتها للمرحلة الانتقالية في ضبط الأمن ومنع الحرب الأهلية، وكذلك في تعدّيات الدولة الصهيونية على سورية. وقد أنبأت أحداث الساحل والمجازر على الهوية الطائفية السوريين بأن خطوات الإدارة وتشكيلها الجيش والأمن العام لم تستطع مواجهة هذه الأخطار، وقد تندلع مجدّداً في الساحل أو في سواه. وإشراك الشعب، ومن كل السوريين، في المؤسسات التي تتشكّل، هو المصدر للثقة وللشرعية.

تفترض المرحلة الانتقالية كثيراً من التجريب، ولكن تهميش دور المعارضة ومختلف الفعاليات الاقتصادية والثقافية والسياسية والخبرات الوطنية أصبح سياسة الإدارة الجديدة، فكما احتكرت هي تعيين اللجنة المكلفة بالحوار الوطني، احتكرت هي تعيين اللجنة التي صاغت الإعلان الدستوري. وأخيراً، ستتشكل لجنة لاختيار أعضاء مجلس الشعب في المحافظات. وتمثل التسريبات عن رفض شخصيات اقتصادية تسلّم رئاسة الحكومة بسبب عدم لمسها الاستقلالية في تحديد السياسات العامة لوزارتها سبباً إضافياً للتخوّف الشعبي الواسع، وليس فقط الأكراد أو الدروز، من خطوات الإدارة في المرحلة الانتقالية.

تهميش دور المعارضة ومختلف الفعاليات الاقتصادية والثقافية والسياسية والخبرات الوطنية أصبح سياسة الإدارة الجديدة

وقد رفضت الإدارة الاستعانة بالخبرات السورية في كل المجالات، فيما هناك دراساتٌ وأبحاثٌ قيّمة أنجزت في سنوات الثورة، منحازة لها، ولتشكيل دولة تحقق مصالح كل السوريين في الانتقال الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والتحرّر الوطني. خطوات الإدارة في المرحلة الانتقالية، وتحديد مدّتها بخمس سنوات، وإقصاء الشعب والقوى السياسية عن المشاركة السياسة، وتجميدها لأسباب متعدّدة، ووفقاً لما أشير أعلاه، تدفع إلى القول إن الإدارة تتجه نحو احتكار كامل السلطات، وغياب أية استقلالية لها، وبالتالي، يُشكل هذا الإعلان بداية التأسيس لدكتاتورية جديدة باسم الانتصار على الديكتاتورية السابقة.

احتكار السلطات بيد الرئيس والجماعة المحيطة به في المرحلة الانتقالية، وتغييب دور الشعب والقوى السياسية، سيؤدّي إلى محاولة شرعنة الإدارة الجديدة من الخارج، أو عبر القوة العسكرية والأمنية، ودفع البلاد نحو الغلبة الطائفية السنية، وبالتالي ستنشأ مظلوميات جديدة، ذُكر بعض بداياتها أعلاه، وقد يؤدّي ذلك إلى مختلف أشكال التدخل الخارجي، وورود مواد في الإعلان تُجرم ذلك لا يمنع إمكانية حدوثها، طالما تشعر أغلبية السوريين بأن الخطوات الانتقالية لا تمثلها.

الآن، وبحثاً عن خياراتٍ أفضل للإدارة الجديدة، يقع عليها نشر قوانين جديدة، تتجاوز احتكار الإدارة ورئيسها كل السلطات، وبما يعيد للشعب دوره في السيادة على شرعية الدولة وفصل السلطات وشرعية الدستور المقبل، وضمناً أن يَنتخب هو مجلس الشعب المؤقت، لا اللجنة التي ستُكلف بذلك، وأن يساهم في تشكيل الحكومة الانتقالية الواسعة.