الإعلام العراقي شريك الخراب

الإعلام العراقي شريك الخراب

27 سبتمبر 2022
+ الخط -

فَطن الإنسان إلى أهمية الإعلام ودوره منذ بدأت المجتمعات بالتشكّل، ولعلنا نتذكّر هنا كيف أن العرب ما قبل الإسلام كانت تحتفي أيما احتفال عندما يولد فيها شاعر، فهو سيكون لسان القبيلة والمدافع عنها والقادر على أن يحمل على أعدائها وشحذ همم أبنائها للدفاع عنها.
هذه الوظيفة القديمة المتجدّدة للإعلام منحته، بمرور الزمن وتغير الآليات والوسائل، قدرة أكبر على التاثير، بل وعلى قيادة توجهات الناس بطريقةٍ أكثر مهارة وذكاء، حتى ليخيّل إليك، في بعض الأحيان، أن الإعلام، قبل الاقتصاد والسياسة، هو من يقود العالم بسبب قوة تأثيره وسطوته.
في عراق ما بعد 2003، فشل التغيير القسري الاحتلالي الذي قادته الولايات المتحدة في تشكيل إعلام وطني يمكن له أن يسهم في دفع عجلة التغيير المفترض نحو مراسيها المطلوبة، بل أزعم، وبحكم عملي في هذا المجال، أن أول من بذر بذرة الإعلام المخرّب في عراق ما بعد 2003 هو الولايات المتحدة، عبر استخدام الإعلام، مبكّرا جدا، في ترويج الوهم داخل المجتمع العراقي.
في التاسع عشر من إبريل/ نيسان 2003، أي بعد نحو عشرة أيام من دخول القوات الأميركية بغداد، صدرت أول صحيفة عراقية عقب هذا الغزو، مولتها القوات الأميركية، ليتوالى بعد ذلك إصدار الصحف العراقية، حتى وصل عددها إلى نحو مائتي صحيفة ومجلة ما بين يومية ونصف أسبوعية وأسبوعية وشهرية، وكتبتُ ذات تحقيق استقصائي صحافي حينها أن سماء بغداد تمطر صحفا.

غالبية كبيرة من الإعلاميين لا يخفون توجهاتهم، لا السياسية منها ولا الدينية ولا الطائفية ولا حتى المالية والتجارية واستثماراتهم

دخلت القوى السياسية والحزبية والدينية، وحتى المالية، عالم الإعلام العراقي ما بعد 2003 سريعا، وكانت هذه التيارات المتباينة سببا آخر من أسباب ما تعرّض له العراقيون من ويلات وثبور 19 عاما من عمر الغزو الأميركي. يكفي أن يُذكَر أن تلك الصحف التي كانت تمولها جهات حزبية وسياسية ودينية، كانت تجتهد وتنشر على صدر صفحاتها الأولى أسماء المطلوبين للاغتيال، مع ديباجة عاطفية تتيح المجال لكل متعاطف معها أن يحمل سلاحه ويقتل الشخص الذي ذكر اسمه في تلك القوائم، تحت عناوين دينية شتى. حتى الإعلام الرسمي الذي يفترض أنه يُموّل من جيوب العراقيين، كل العراقيين، كان مساهما في إشاعة الفتنة وبث كل أسباب التفرقة بين العراقيين، فهو، في أغلب الأحيان، كان تابعا لتوجهات رئيس الحكومة وحزبه، وأبعد ما يكون عن هويته الوطنية.
هذه البدايات الكارثية التي رافقت تشكيل صورة العراق الجديد الذي شكلته أميركا لم تنتج سوى نهايات أكثر كارثية ومأساوية، فمن يتابع ما تعرضه القنوات العراقية اليوم من برامج يدرك أن هذا الإعلام شريك في جريمة التدمير ومتآمر على الوطن. وغالبية القنوات العراقية الفضائية تديرها أحزاب، أو قوى سياسية مختلفة التوجّهات، ناهيك عن فصيل آخر من تلك القنوات يديره رجال أعمال دخلوا في السياسة، وآخرون يقفون على التل، يستثمرون في إعلامهم من خلال ممارسة الابتزاز لهذا الطرف السياسي أو ذاك، لتغيب مع كل هذا المشهد السوداوي الحقيقة، وليكون الوطن والمواطن أول ضحايا هذا التناطح الإعلامي والتسفيه الذي تمارسه تلك القنوات.
باتت غالبية كبيرة من الإعلاميين لا يخفون توجهاتهم، لا السياسية منها ولا الدينية ولا الطائفية ولا حتى المالية والتجارية واستثماراتهم، بل صار بعضهم ينشر مفتخرا صورته مع هذا السياسي أو ذاك، وهذا أمر كان يعيب أي صحافي مستقل، يؤمن أن صورة كهذه يمكن أن تقدح في مهنيته وموضوعيته. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل دخلت الأحزاب والقوى السياسية المختلفة، ومعهم رجال دين وأعمال، الفضاء الافتراضي، وشهدنا جيوشا إلكترونية تابعة لهذا أو ذاك، تحرّض وتتقاذف التهم والتسقيط بطريقة فجّة وقبيحة، ويكفي أن تطل برأسك على الفضاء الافتراضي العراقي لتشم رائحة هذا العفن المخزي الذي تقوده قوى السلطة وأحزابها شخصياتها.

نعيش في عالمٍ لم يعد الإعلام التقليدي وحيدا في ساحة التأثير، بل هناك اليوم الفضاء الافتراضي

لقد أفسد الساسة، ومعهم معمّمو الأحزاب ورجال المال، الإعلام في العراق، ولم يكتفوا بذلك، بل لاحقونا إلى الفضاء الافتراضي، فجيّشوا الجيوش وصرفوا الأموال من أجل ترويج أكاذيبهم وفتنهم وقصصهم التافهة.
في المجمل، بات الإعلام العراقي، في غالبيته، شريكا في هذا الخراب، فهو عجز عن أن يصنع حكاية وطن يلتف حولها العراقيون، وفشل في أن يكوّنَ رأياً عاماً يمكن أن يسهم في وقف حالة التدهور والانهيار، بل كان مساهما وفاعلا ومؤثرا في كل ما نشاهده اليوم من خراب. سيقف كثيرون من إعلاميي السلطة وأحزابها وشخوصها السياسية وغير السياسية أمام التاريخ، يحاسبون على ما فعلوا، ما كتبوا، ما علقوا، ما أيقظوا من فتن، ما خربوا من عقول، وما باعوا من أوطان.
من الصعوبة بمكان أن تبحث عن إعلام وطني وسط كل هذه الرايات المتنوّعة والمتصارعة، ذلك صحيح، ولكن الصحيح أيضا أننا نعيش في عالمٍ لم يعد الإعلام التقليدي وحيدا في ساحة التأثير، بل هناك اليوم الفضاء الافتراضي، الذي وإن أقحمه في هذه الدوامة الفاسدة الساسة العراقيون، إلا أنه ما زال مؤثرا وفاعلا، وبالتالي على الإعلاميين العراقيين ممن يحاولون أن ينقذوا ما تبقى من الوطن أن يسهموا بشكل فاعل في استغلال هذه الفسحة، قبل أن يلتهمها حيتان السياسة وفاسدوها.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...