الإعلام السوري… مرآة تتكسّر كل يوم
(وسام العابد)
لم تعد الصحافة في سورية اليوم مهنة تُبنى على الحكاية والسؤال، بل باتت ميداناً للصراع الرمزي. كل من يكتب يُحاكم على هويته قبل كلمته، وعلى موقفه قبل فكرته، فالفكرة لم تعد تُقاس بمدى مصداقيّتها، بل بموقعها من الخريطة السياسية.
يبدو الاستقطاب الإعلامي أشبه بمرآة مكسورة، كل شظية تعكس جزءاً من الصورة، لكن لا أحد يرى الكل. ... منصّات كثيرة تحولت إلى أدوات لتكرار الخطابات نفسها التي مزّقت السوريين عقوداً: سرديات تقوم على العدمية السياسية بالدرجة الأولى، ترفض فتح أي نقاش حول المحتوى، بل تصنع ضوضاءً تُغرق كل محاولة للفهم فيها وتزيد الانقسام.
لم يعد الصحافي شاهداً على الواقع في سورية، بل صار هدفاً للصراع ذاته: يُخَوَّن إن كتب، ويُتَّهَم إن سكت. صارت المهنة التي وُجدت لتكشف الحقيقة، متهمة دوماً بالكذب، كأن الصدق لم يعد خياراً متاحاً.
وسط هذا كله، تبرز ظاهرة جديدة أكثر خطورة تتجلى في تحطيم ممنهج للفعل الإعلامي نفسه. على وسائل التواصل الاجتماعي، تعمل جهات منظّمة، أحياناً بشكل مباشر، وأحياناً عبر جمهورٍ مُوجَّه، على تحويل النقد إلى أداة تدمير. تُطلق الحملات لتشويه الصحافيين والمؤسّسات والاغتيال المعنوي للشخصيات، لا لخطأ مهني، بل لأن وجودهم، بحد ذاته، يُهدّد سردية ما أو مصلحة سياسية ضيقة. يتحوّل الفضاء الرقمي إلى ساحة صراخ، إلى "سعار جماعي" لا هدف له سوى التحطيم. ليس هذا الفعل عفوياً، بل يبدو جزءا من هندسةٍ متعمّدةٍ لتفريغ أي نقاش من معناه وتحويل الإعلام إلى ضجيجٍ بلا غاية.
يبدأ الإصلاح حين نتعلّم كيف نختلف دون أن نُخَوِّن، وكيف نوجّه سهام نقدنا إلى اللبّ لا إلا القشور
المفارقة أن هذه الحملات تُبرّر دائماً باسم النقد. لكنها في الواقع لا تقارب المهنة في جوهرها، لا تُناقش محتوى التقارير ولا دقّة الأرقام مثلاً، بل تستهدف الأشخاص أنفسهم. صار الصحافي يُحاكم على انتمائه، لا على نصّه. ومع غياب أي تقاليد مؤسّسية لنقد الإعلام بشكل مهني، أصبح التشهير هو الشكل الأكثر تداولاً بدلاً من المساءلة.
النتيجة أن كثيرين من الصحافيين وأصحاب المبادرات الجادّة الذين يحاولون العمل بمهنية يجدون أنفسهم محاصَرين بين طرفين: معسكراتٍ سياسية تستخدم التخوين سلاحاً من جهة، ومن جهة أخرى، سيل من الذباب الالكتروني، أو المرتزقة، الذين لاهم لهم سوى عداد المشاهدات والمتابعات. وقد دفع هذا الواقع بعضاً إلى الصمت، ودفع آخرين إلى التماهي مع لغة غاضبة في ضوضاء العاصفة.
لم يعد الصحافي شاهداً على الواقع في سورية، بل صار هدفاً للصراع ذاته: يُخَوَّن إن كتب، ويُتَّهَم إن سكت
مع ذلك، لا تخلو الصورة من ضوءٍ صغير ينعكس على شظايا المرآة. هناك محاولات حقيقية ومؤسّسات ما زالت تؤمن بأن الصحافة يمكن أن تكون فعلاً أخلاقياً وسط الفوضى: تقارير متروّية، مقاربات نقدية، تحليلات هادئة، ومحتوى إنساني يرفض أن يُختزل في شعار أو معسكر. تلك الأصوات لا تصرخ، بل تتحدث بهدوء وجدية، وتعيد تذكيرنا بأن الإعلام في جوهره هو مساحة للفهم لا للمبارزة، لإثارة الأسئلة الصعبة ومحاولة الإجابة عليها.
ربما لا يمكن إصلاح هذه المرآة دفعةً واحدة، لكنها ما زالت قادرة على عكس ما تبقّى من ملامحنا. يبدأ الإصلاح حين نتعلّم كيف نختلف دون أن نُخَوِّن، وكيف نوجّه سهام نقدنا إلى اللبّ لا إلا القشور. فالإعلام، في جوهره، ليس ميدانَ ولاءٍ أو خصومة، بل محاولة دؤوبة لرؤية وجوهنا كاملة، لا مجرد شظايا مفتتة، لكن إن بقي الحال على ما هو عليه، لن يبقى في سورية إعلام أصلاً، ستعود البلاد إلى حالة التصحر السابقة التي شهدنها عقوداً خلال حكم الأسد المخلوع، لا بل أسوأ من ذلك، سيملأ الضجيج هذا الفضاء، وستصبح ممارسة الإعلام في سورية فعلاً ميؤوساً منه.