الإسلام السياسي والجنرالات في فرنسا
تحت وطأة الأزمة الاقتصادية التي فاقمها الوباء الفيروسي المقيم، تتعرّض الديمقراطية الفرنسية لضغوط جدّية من جهتين متعاديتين، ويجمعهما العداء للديموقراطية، فقد وقّع، قبل أيام، عسكريون فرنسيون متقاعدون، بينهم جنرالات ومراتب عليا، إضافة إلى أكثر من ألف عسكري، على رسالة بعنوان "من أجل استعادة شرف حكامنا"، موجّهة إلى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يدعونه فيها إلى "الدفاع عن الوطنية"، ووضع حد "لهذه الفوضى المتزايدة"، ويحذّرون من تفكك البلاد ومن حرب أهلية، ويهدّدون بالتدخل. وقّع على الرسالة، حتى الآن، أيضاً 18 عسكرياً في الخدمة، بينهم ضباط، وقد صرّح رئيس أركان الجيش أنه ستتم معاقبة هؤلاء، بناء على طلب وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي.
كتب الرسالة جان بيير فابر بروناداك، وهو جنرال درك متقاعد، صدر له في مارس/ آذار الماضي كتاب بعنوان "ملعونو فرنسا، بين القتل الإعلامي والعنف اليومي"، يتهم فيه الإعلام الفرنسي بتقليل خطر العنف الذي يُمارس على الفرنسيين، وينتقد تهمة الفاشية التي تلاحق كل من يعبّر عن حبه لوطنه، أو عن تحفظه على الإسلام، أو كل من يمتدح الزواج المتغاير. ويتساءل إلى متى سيقبل الفرنسيون تساهل المسؤولين الذين يفترض بهم الشرف، والحكومة الفاقدة للشجاعة، مع العنف الذي يذهبون ضحية له. ويكرّر هذا الجنرال في مقابلاته كلمة "الخوف" على أنها أفضل ما يصف الحال.
على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تعيشها فرنسا، من المفهوم أن يبرز نزوعٌ مضادٌّ للديموقراطية، يميل إلى حكم القوة والقبضة الحديدية
لا يخلو من الدلالة اختيار نشر الرسالة في (21 إبريل/ نيسان)، وهو تاريخ ما عرف باسم "انقلاب الجنرالات" في الجزائر ضد ديغول واتهامه بالخيانة، لأنه يريد أن يتخلى عن الجزائر الفرنسية. في الحالتين، يتصل الأمر بمواجهة الآخر، في المرّة الأولى خارج فرنسا، وفي الثانية داخل فرنسا. تتجاوز هذه الرسالة "العسكرية" مبدأ التحفظ السياسي المفروض على الجيش، "الصامت الكبير" كما يسمّونه في فرنسا.
على أرضية حوادث العنف الفردية التي تقع بين حين وآخر في فرنسا، وكان جديدها أخيراً حادثة طعن الشرطية في منطقة رامبوييه قرب باريس، في 23 إبريل/ نيسان، على يد شاب تونسي دخل إلى فرنسا في 2009 بطريقة غير شرعية، وقيل إنه صاح "الله أكبر" قبل أن يغدر بالشرطية، وقبل أن يسقط صريعاً برصاص أحد زملائها. وعلى خلفية الأزمة الاقتصادية التي تعيشها فرنسا، وكانت مصدر احتجاجات اجتماعية واسعة، كان أبرزها حركة السترات الصفراء وإضرابات عمال السكك الحديدية، من المفهوم أن يبرز نزوعٌ مضادٌّ للديموقراطية، يميل إلى حكم القوة والقبضة الحديدية، ولا غرابة في أن يكون العسكريون في طليعة المعبرين عن هذا الميل.
من المفهوم جيداً أن يتلقف اليمين الفرنسي المتطرّف (التجمع الوطني) هذه الرسالة، التي تعبر عن نزعة قومية متطرّفة، وأن تطلب رئيسة التجمع، مارين لوبان، من هؤلاء العسكريين الانضمام إليها في "المعركة من أجل فرنسا"، ذلك أن الطرفين يعتقدان أن مصدر الشر في فرنسا غير فرنسي.
عمليات القتل التي تربط نفسها بالإسلام، وتشهدها البلدان الأوروبية، وفرنسا خصوصاً، تعمل، في الحقيقة، على محاصرة المشروع الإسلامي السياسي
يشكل الإسلام السياسي أو النزوع السياسي للإسلام (islamisme) أحد أهم محرّضات هذا النزوع المضاد للديموقراطية الذي تعبر عنه الرسالة، والذي يمكن رؤية تلاوينه لدى شرائح كثيرة من النخب الفرنسية. تنبع إشكالية الإسلام السياسي في فرنسا من بنيته المخاتلة التي تعطيه وجوهاً عديدة متداخلة. فهو يجمع بين الحقوق الدينية التي يشترك فيها مع بقية الديانات ونزعة السيطرة الكونية التي يتفرّد بها عن بقية الديانات. هذه خلطة مقلقة في البلد الديموقراطي، ممارسة الحق الديموقراطي الطبيعي باعتباره ديناً، يرافقها تصور بعيد غير معلن يهدف إلى تقويض الديموقراطية. يزداد الأمر تعقيداً مع مسعى الإسلاميين إلى الدفاع عن المسلمين المعرّضين للتهميش أو للتمييز السلبي في الضواحي، فيكتسب بذلك صبغة يسارية تقرّبه من بعض اليسار الفرنسي، أو تجعل هذا يقترب منه. هذه البنية هي ما ينشئ حساسية شديدة لدى الفرنسيين تجاه الرموز الدينية الإسلامية، ليس لأنها رموز دين مغاير، بل لأنها رموز مشروعٍ سياسي مغاير، يستهدف نمط حياة الفرنسيين، ولا يشبه المشاريع السياسية التي تتصارع في إطار الديموقراطية، بل هو مشروعٌ يتعارض في العمق مع الديموقراطية وفق المبدأ الإسلامي الذي يقول "قانون الله فوق قانون البشر".
لا يعني هذا الكلام القول إنه لا يوجد مسلمون متدينون ومكتفون بإسلامهم ديناً، مثل اكتفاء أصحاب الأديان الأخرى، لكنه يعني أن وجود فئة من الفاعلين الإسلاميين السياسيين الذين يجمعون الدين إلى سياسة السيطرة غير الديموقراطية يجعل من المسلمين جميعاً، في نظر الفرنسيين، مخزوناً وبيئة لهذه السياسة. على هذا الضوء، يمكن فهم إشكالية الوجود الإسلامي في فرنسا.
إذا كان اليسار الفرنسي ينظر إلى مسلمي فرنسا من منظور ديموقراطي، بوصفهم مجرد أقلية دينية، ومن منظور اجتماعي اقتصادي، بوصفهم مهمشين ومفقرين وسكان ضواحي، ويتقبل على هذا الأساس الإسلاميين مناضلين ضد مظالم اجتماعية، فإن اليمين الفرنسي يركّز على الجانب السياسي الخفي أو شبه الخفي، بوصفه خطراً على الجمهورية، ويتطلب المواجهة الحازمة. الإسلام السياسي على هذا يقدّم خدمة لليمين الفرنسي المتطرّف الساعي إلى رسم خطوط الصراع في فرنسا على أساس قومي إثني، وليس على أساس تمايزات اقتصادية اجتماعية.
ليس الصراع بين الإسلام السياسي واليمين الفرنسي المتطرّف أو نزعة الانغلاق القومي الفرنسية، فالخصم المشترك لهما الديمقراطية
عمليات القتل التي تربط نفسها بالإسلام، وتشهدها البلدان الأوروبية، وفرنسا خصوصاً، تعمل، في الحقيقة، على محاصرة المشروع الإسلامي السياسي. إنها تشكل تقويضاً أخلاقياً لهذا النزوع. فهي إلى جانب بشاعتها المنفرّة، تعرض جانباً لا يتلاءم مع مسعى الإسلام السياسي، هو جانب العنف والعجز عن التعايش خارج السيطرة، وهذا ما يفتح باباً سهلاً، أمام اليمين الفرنسي المتطرف، لتقويض الإسلام السياسي بوصفه "الوجه السياسي للعنف الجهادي".
يميل اليمين الفرنسي إلى ربط الإسلام السياسي بالتطرّف والعنف ومعاداة الديموقراطية. والحل، إذن، هو المواجهة والحظر وفرض القوانين التي تحدّ من التوسع. من جهته، يميل اليسار الفرنسي إلى تصوّر إسلام سياسي متعايش مع الديموقراطية، كما يدافع المفكر الفرنسي فرانسوا بورغا. أما حكومة ماكرون، وتحت ضغط انتخابي، فإنها تدفع المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية إلى صياغة مبادئ تجعل "الشريعة" متوافقة مع قيم الجمهورية.
في الإسلام السياسي وجه نضالي لاسترداد حقوق يدفع اليسار إلى التقرّب منه (في منطقتنا يبدو الأمر واضحاً في مقاومة حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين، وفي مواجهة تنظيمات إسلامية للأنظمة المستبدة)، ولكنه ينطوي على ميلٍ استبداديٍّ شديد، ومفتوح على عنف إقصائي فاشي، عنف يمكن رؤيته في التجارب الواقعية التي تصادق على استنتاجه من التصورات والمنطلقات الدينية لهذه التنظيمات.
مع ذلك، ليس الصراع في الحقيقة بين الإسلام السياسي واليمين الفرنسي المتطرّف أو نزعة الانغلاق القومي الفرنسية، فالخصم المشترك للطرفين الديموقراطية.