الأم أغنيس والمفتي حسّون... مسارات السياسة والدين والعلمنة

30 مارس 2025
+ الخط -

تعتقد شرائح واسعة من السوريين أنّ نظام البعث، ومن ضمنه نظام الأسد، كان عَلمانيّاً، وقد بُني هذا الاعتقاد على جزئيات ظاهرة مقتطعة من سياقها العام، لكنّ النظام وخصومه على السواء وظّفوها لتصبح مسلّماتٍ أو بديهيّات لا يسعى المتلقي إلى التفكير فيها أو لنقضها. من ذلك منع بعض المظاهر الدينية في مؤسّسات الجيش والأمن، لا وبل محاربتها وقمع من يمارسها حتى على صعيد فردي، وليس فقط بشكل جماعي منظّم. دخل في هذا الإطار التدقيق في المظهر الشخصي للأفراد من حيث الملبس وإطلاق اللحى، وعلى التصرّفات الشخصية، مثل المواظبة على صلاة الفجر في المساجد أو قراءة كتب دينية. في الاتجاه المعاكس، كان ثمّة غضّ نظرٍ واضحٍ عن شرب الكحول في المجتمع عموماً، والتشجيع عليه في تينك المؤسستين، بل واعتباره من طقوس الرقيّ والتحضّر. يمكن سوقُ أمثلةٍ كثيرةٍ بسيطة جرى تضخيمها لتصبح عنواناً لعلمانية النظام، رغم أنّها ليست سوى جزء من مساحة الحريات الشخصية التي يُفترض أن تُترك للأفراد من دون مساس أو تقييد. أراد النظام منع التجمّعات بمنعه الصلاة الجماعية في الجيش والمؤسسات الأمنية والمدارس والجامعات، وكل مكان يمكن أن يجتمع فيه الناس خارج دور العبادة، ومنع الأفراد من هذه الممارسة البسيطة، حتى لا تنتقل العدوى إلى غيرهم. لم يكن هذا السلوك لأنّ "البعث" أو نظام الأسد يحارب الدين، فكثيرون من أعضاء الحزب كانوا من المواظبين على فروض الإسلام في منازلهم أو في المناسبات العامة التي سمح بها النظام. جاء هذا نتيجة خشيته من التجمّع بحد ذاته، وما ينجم عنه من تشجيع الناس بعضهم بعضاً للتفكير بصوتٍ مسموع أو للتداول بالشأن العام. لقد كانت السياسة محصورة بفئة محدودة جدًا في ظل البعث، وبدأت تضمحلّ حتى انحصرت بيد الأسد وابنه الذي ورث الحكم بعده، فلم تكن قيادات الحزب ولا الوزراء ولا كبار الموظفين ولا قادة أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية يمارسون السياسة بما هي مشاركة في القرار، بل كانوا ينفذون تعليمات القائد الأوحد.

على الضفّة الأخرى من مستنقع الحياة في سورية البعث والأسد، كانت المعارضة ذات الخلفيات الإسلامية بالأغلب الأعمّ تعزز هذه السردية لأسبابها الخاصة، فإغلاق مؤسسات الدولة بوجه الناس وحصر المشاركة بتنفيذ التوجيهات بالتبع المرضي عنهم، جعل المجتمع التقليدي ساحة المنافسة الوحيدة بين السلطة والمعارضة، فتوجّهت الأخيرة بحكم ثقل حضورها التاريخي إلى جمهورها من خلال تبنّي سردية النظام نفسها وأدواته نفسها لقطب عروتها وتوثيقها إلى جانبها أكثر فأكثر. صارت العلمانية سبّة عند الجمهور لارتباطها بممارسات تقترب من ساحة الاختيار الفردي اللصيق بضمائر البشر. كيف لنا أن نتصوّر قبول الناس تحديد خياراتهم بقوالب معيّنة تحت وطأة الملاحقة والمحاسبة دون ردّة فعل انتقامية من العنوان الذي أتت تحته هذه الإجراءات القمعية؟ إنّه ردّ فعل طبيعي لمقاومة البشر الإكراه، لكنّه يتقعّر إلى داخل الفكر والنفس من دون أن يتمظهر خارجهما بسلوك عقلاني. كانت النتيجة حمولات سلبية فائضة، ألقيت على كاهل ليس فقط العلمانية، بل وكثيراً من الحقوق والحرّيات الفردية التي أدرجت في خانة الخطر المحدق بكينونة المجتمع أو الأسرة، لمجرّد أن هذا الفريق أو ذاك استخدمها في الصراع على السلطة أو الفضاء المجتمعي.

لماذا جرى اعتقال حسّون وإطلاق العنان للأم تسرح وتمرح ليس في الداخل فحسب، بل وفي الخارج مع ممثلي دول بعضها مصنّفٌ حتى اللحظة في خانة الأعداء؟

لم يكن نظام الحكم في سورية علمانيّاً، بل هو أكثر من استغلّ المؤسسات الدينية بغرض تركيز السلطة واغتيال السياسة وقمع الضمير. ولم يكن ذلك مقتصراً على المؤسّسات الدينية الإسلامية، بل شمل المؤسّسات المسيحية أيضاً على اختلاف طوائفها ومذاهبها. تعمّق ذلك الاستثمار ليصبح من أدوات الحرب على المجتمع الثائر بعد 18 مارس/ آذار 2011. خروج التظاهرة الأولى من مسجد الحمزة والعبّاس في درعا البلد، وانتقالها إلى المسجد العمري الذي يحمل رمزية كبيرة عند أهالي درعا، ثمّ مواظبة السوريين على هذا النهج باعتباره الساحة الوحيدة المتاحة أمامهم للتجمّع، رفعت منسوب الخطر عند النظام، ورفع كذلك مستوى التحدي عند الناس، فكان أن لجأ النظام إلى أزلامه من المشايخ ورجال الدين الذين أعدّهم عقوداً ليفتّ بهم عضد الثوار ولينزع الشرعية عنهم بما يشبه الحُرم الديني، رغم أنّ هذه الآلية ليست مستعملة بهذه التسمية عند المسلمين، لكنّ جوهرها هو التكفير الذي مارسه مفتي النظام حسين حسّون، الذي بات الثوار يسمّونه مفتي البراميل. كذلك استثمر النظام في قيادات المؤسّسات الكنسية التي سارعت لتأييده بوجه "الرعاع الظلاميين القادمين لتعكير الصفو المجتمعي ولاستباحة الأديان"، فكانت الأم أغنيس مريم الصليب رائدة مدرسة المواجهة في الجبهة المسيحية.

لا حاجة بنا للاستشهاد بمواقف الأم أغنيس والشيخ حسوّن في دعم النظام، فهي أكثر من أن تُعدّ وتُحصى وتمتلئ بها بطون الصحف والمجلات ومنصات التواصل. إنما الحاجة للتركيز على نقطة واحدة في مسار تعامل العهد الجديد بعد سقوط نظام الأسد مع هاتين الظاهرتين المختلفتين شكلاً المتماثلتين مضموناً ودوراً. لماذا جرى اعتقال حسّون وإطلاق العنان للأم تسرح وتمرح ليس في الداخل فحسب، بل وفي الخارج مع ممثلي دول بعضها مصنّفٌ حتى اللحظة في خانة الأعداء؟ قد لا نستطيع الإحاطة بكل أسباب هذا التمييز من الإدارة الجديدة في التعامل بين الشريكين الرئيسيين لنظام الأسد في حربه على السوريين، لكننا قد نفتح الباب لوضع مؤشّرات على ذلك.

السياسة تقتضي حالياً التهدئة مع المجتمع الدولي الذي يرفع شعار حقوق الأقليات، والمسيحيين منهم بالأخص باعتبارهم خارج النسق الكلي لمرجعية نظام الحكم الجديد

يرى كاتب هذه السطور أنّ السياسة تقتضي حالياً التهدئة مع المجتمع الدولي الذي يرفع شعار حقوق الأقليات، والمسيحيين منهم بالأخص باعتبارهم خارج النسق الكلي لمرجعية نظام الحكم الجديد. إضافة إلى أن الكنائس في سورية ذات تشابك واسع النطاق في مرجعياتها التنظيمية المتوارثة عبر مئات السنين، وهذه تعبر الحدود لتصل إلى روما وموسكو وكثير من بقاع المعمورة. تجد السلطة الجديدة نفسها، كما كان نظام البعث والأسدين أيضاً، أمام معضلة التدخّل في تلك التركيبة المعقّدة، فتحاول الالتفاف على تلك التشابكات باستمالتها بدل عدائها. على العكس من الحالة الواضحة في الجهة الإسلامية. البديل موجود وممكن، وهو من داخل المنظومة نفسها. من هنا، تمكن قراءة تعيين الرئيس احمد الشرع مجلساً أعلى للإفتاء في سورية، وتعيين رئيسٍ له الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً عامّاً للجمهورية، بعد أن كان الرئيس المخلوع قد ألغاه عام 2021. ويمكن قراءة الرسائل المهمّة جدًا التي أراد الشرع إيصالها في كلمته التي ألقاها في حفل التعيين، ومنها الموجّهة إلى عموم المسلمين في سورية والعالم، ولتيار الجهاد السلفي الذي جاء منه الشرع نفسه عندما حدّد مهمة المجلس بالقول: "إصدار الفتاوى في المستجدات والنوازل والمسائل العامة، وبيان الحكم الشرعي في القضايا التي تحال إليه، وتعيين المفتين ولجان الإفتاء في المحافظات وتحديد اختصاصهم، والإشراف على دور الإفتاء وتقديم الدعم والمشورة". ثم عندما حدّد توجّه المجلس ونهجه بالقول: "مجلس الإفتاء سيسعى إلى ضبط الخطاب الديني المعتدل، الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، مع الحفاظ على الهوية ويحسم الخلاف المفضي إلى الفرقة، ويقطع باب الشر والاختلاف". ثم رسائله إلى العالم كلّه بأنّ لا فصل للدين عن الدولة ولا عن السياسة عندما قال: "ينبغي أن تتحوّل الفتوى إلى مسؤولية جماعية من خلال تشكيل مجلس أعلى للإفتاء، تصدر الفتوى من خلاله، بعد بذل الوسع في البحث والتحري، إذ الفتوى أمانة عظيمة وتوقيع عن الله عزّ وجل". لا تفوتنا هنا أيضاً الإشارة إلى رسائل التطمين للمجتمعين، التجاريين، الدمشقي والحلبي، اللذيْن كانا، على الدوام، في علاقة غزل وتبادل منافع ومصالح مع "الإسلام السياسي"، هذه العلاقة التي أنتجت ما بات يُعرف بمصطلح "الإسلام الشامي الوسطي".

هكذا نجد الإدارة الجديدة في سورية تهرول بين مسارات السياسة والدين والعَلمنة، مراهنةً على قدرتها على المناورة مع الواقع بكل تعقيداته وتحدّياته الهائلة في الداخل والخارج، فهل تنجح في ذلك من دون أن تثير حفيظة السوريين والسوريات أو فئات منهم هنا وهناك، أو من دون أن تتجاوز على حقوقهم وحرّياتهم؟ ننتظر ونرى.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود