الأفق السياسي في الجزائر بعد قرارات الرئيس

الأفق السياسي في الجزائر بعد قرارات الرئيس

02 مارس 2021

(Getty)

+ الخط -

كانت التكهّنات السياسية والإعلامية كلّها تراهن على أنّ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون سيلقي خطابا يعلن، من خلاله، عن قراراتٍ يعيد بها شيئا من المصداقية لحركيّة الإصلاح والتّغيير في البلاد، في أعقاب الحراك الذي انطلق في 2019 بمطالب سياسية واقتصادية تحقّق بعضها، ويرجو الجزائريون أن يتحقّق المتبقي من مطالبه، خصوصا أن ذلك يرتبط بتغيير جذري للنخبة السياسية، للمؤسسات وللتسيير وللسّياسة العامة، على الأصعدة كافة، رُفعت بشأنها شعاراتٌ ينتظر الحراك أن تتجسّد ربّما، بدايةً، عبر التعديل الحكومي، تعديل قانون الانتخابات وحل البرلمان (بغرفتيه) وإجراء انتخابات تشريعية ومحلية مبكرة.
جاءت التكهّنات، هذه المرّة، صائبة، حيث أعلن الرئيس تبّون عن جملة من القرارات، كانت أهمها إصدار عفو رئاسي عن نشطاء الحراك من المحكوم عليهم نهائيا، أو ممن ما زالوا في طور التحرّيات، حل البرلمان وإقراره لتعديل حكومي جزئي، سيمس، كما جاء في الخطاب، القطاعات الوزارية التي لوحظ عليها قصور في أداء المهام أو بلوغ الأهداف المسطّرة (المحددة سابقا)، لمعاجلة المشكلات، والتكفل بالمطالب، مع تصاعد أصوات المواطنين بالشّكوى اقتصاديا واجتماعيا، خصوصا أنّ ذلك تزامن مع تداعيات جائحة كورونا.
تطرح هذه القرارات جملة من الإشكاليات القانونية والسياسية، لعلّ أهمّها، في صلة مع تنظيم انتخابات تشريعية، عدم وضوح المقاربة التي سيعتمد عليها الرئيس في إقراره القانون العضوي للانتخابات، بما أنّ البرلمان تمّ حلّه، وباعتبار أنّ قانونا مهما ستجري على أساسه الانتخابات، لا يمكن أن يصدر بأمر رئاسي، خصوصا أنّه (القانون) يحمل، في مضمونه، عديد الاعتراضات، قال عنها رئيس اللُّجنة المكلّفة بتحضيره وصياغته، أحمد لعرابة، إنّها وردت من 48 حزبا، وكانت أهمها، كما جاء في تصريحات بعض تلك الأحزاب، مسألة عتبة الـ4% التي تصعب، وفق رؤيتها، من دخولها البرلمان، بالنّظر إلى أنّها أحزاب صغيرة، وسيكون من الصعب عليها الوصول إلى تلك العتبة.

كأن الرئيس يريد القول إن التعويل، مستقبلا، في الانتخابات التشريعية، بداية، سيكون على المجتمع المدني ومن بين الشّباب

يُضاف إلى ذلك أنّ قرار حلّ البرلمان، وفق لغة الأخبار التي جاءت في التّلفزيون العمومي، لا تعني إلّا الغرفة السُّفلى، أي المجلس الشعبي الوطني، بما يعني أن ثمّة تدرُّجية في تجديد المؤسّسات وطنيا، الغرفة السفلى ثم، محليا، بانتخابات تمس البلديات والمجالس الشعبية الولائية (مجالس المحافظات المنتخبة)، وصولا إلى الغرفة العليا للبرلمان، مجلس الأمّة، التي يتشكّل ثلثاها من المنتخبين المحليين (الثلث المتبقي من صلاحيات الرئيس بالتعيين، وفق الدُّستور).
من ناحية ثانية، هناك إشكالية تجديد النُّخبة السياسية التي يكون الرئيس عبد المجيد تبون قد أشار إلى خياره بشأنها، بتضمين خطابه قراره بالإصدار المرتقب، منه، لتشكيلة المرصد الوطني للمجتمع المدني والمجلس الأعلى للشباب، وكأنه يريد القول إن التعويل، مستقبلا، في الانتخابات التشريعية، بداية، سيكون على المجتمع المدني ومن بين الشّباب، بعيدا عن النّخب السياسية التي ربّما يكون قد قرّر أنّها لن ترافقه في الإصلاحات المقبلة، بعد استثنائه من المشاورات أكبر حزبين يشكلان، كلاهما، الأغلبية البرلمانية، ويحتلان الصّدارة في المجالس المحلية، ولكن دونما نتيجة تُذكر، بل انصبّ الانتقاد كلّه على تلك النخب، سواء من المنتخبين، أو من المسؤولين الحكوميين، وخصوصا على مستوى قضايا الفساد.
كما قد يكون الاحتمال الآخر الذي يُفهم من خطاب الرّئيس أنّ خياره متجه نحو بناء النخبة السياسية القادمة بالارتكاز على المجتمع المدني، لكن من دون التخلي عن الوساطة السياسية التي توفرها التشكيلات السياسية، مع توجيه الدّعوة إلى أحزاب جديدة لخوض الانتخابات، سواء من قيادات الأحزاب التي استقبل قيادييها، أو من التي أشار إلى أنّها ستستفيد من مضمون إجراءات الدّستور الجديد الذي أقرّ مسار إنشاء الأحزاب على أساسه، من خلال التّصريح، فقط، بعيدا عن البيروقراطية والتدخّل السّياسي لوزارة الداخلية التي سادت في الماضي، ومنعت بعض الأحزاب من الحصول على اعتماد للنّشاط السّياسي.

ربطت التكهّنات بين إشارة خطاب الرئيس إلى فشل في أداء المهام والتكفل بانشغالات المواطنين في بعض القطاعات

هناك، من ناحية ثالثة، إشكالية التعامل مع الحراك الذي تم التشديد، في خطاب الرئيس، على وصفه بالمبارك والأصيل، أي الاستمرار في الاعتقاد، في إدراك الرئيس والسلطة، بأن ثمة منعرجا غير مقبول من مطالبات الحراك، ومنها وجوب التخلي الكلي عن النخبة السياسية التي شاركت في الحكم في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وهو مطلب غير مقبول، وإن تمت الاستجابة لجزء منه بتعمد الرئيس استبعاد قيادات حزبي جبهة التّحرير الوطني والتّجمع الوطني الديمقراطي من مشاوراته الأخيرة مع الطبقة السياسية، بل ودعوته حزبا معارضا قاطع الانتخابات الرئاسية، وهو جبهة القوى الاشتراكية، للمشاركة في تلك المشاورات، وقبول الإعلام الرّسمي (التّلفزيون العمومي) بإذاعة بيان الحزب، بعد لقاء الرّئيس، وفيه مطالبات بإجراءات التهدئة التي تُرجمت بقرار العفو عن نشطاء من الحراك، إضافة إلى جملة من الإجراءات، يكون الخطاب قد أشار إليها في تركيزه على انتخاباتٍ نزيهة، تؤدّي إلى حياة سياسية مغايرة تماما لما كان سائدا في الممارسة السياسية السابقة.
من ناحية رابعة، وعلى الرّغم من إشارته إلى أجل أقصى لإجراء تعديل حكومي جزئي، قد يصل إلى يومين من تاريخ الخطاب، (وهو ما جرى)، إلّا أنّ التكهّنات ربطت بين إشارة الخطاب إلى فشل في أداء المهام والتكفل بانشغالات المواطنين في بعض القطاعات والوزراء الذين غادروا الفريق الحكومي، ولعلّ ذلك يكون توجها جديدا في مقاربة الممارسة السياسية وربطها بحصيلة تكون محصّلتها، انتهاء، الاستمرار أو المغادرة، وهو ما لم يكن معمولا به في السّابق، حتى بالنسبة لوزراء استفزّوا بتصريحاتهم الجزائريين، أو مقارباتهم ممارسة العمل الحكومي، إضافة إلى شبهات فساد تحققت بعد انطلاق الحراك، واستقالة الرئيس السابق والفريق الحكومي الذي عمل معه.

محكّ المصداقية هو التّعديل الوزاري، لأنه ما يحمل الجزائريين على الاقتناع بوجود إرادة للإنصات إلى مطالبهم

عند النظر إلى خطاب الرئيس تبون، تجده متضمنا قراراتٍ لا تشير إلى التغيير الكامل والجذري، بل إلى تدرّجية في الإصلاح في صورةٍ توحي بوجود سرعتين في الاتجاه نحو وضع بديل للوضع الذي أدخل فيه النظام السابق الجزائر. وقصد تجسيد سرعةٍ وسطى توازن بينهما، سعت السّلطة إلى إقرار الحركية المناسبة، وفق رؤيتها، حيث عدّد الرّئيس الورشات التي تم فتحها، منذ اعتلائه سدة الرئاسة، ومنها تعديل الدستور وصياغة قانون جديد للانتخابات، إضافة إلى إجراءاتٍ يقول إنها، من خلال ممارسة تكون طبيعية ودائمة، ستعمل على اقتلاع جذور الفساد في المجال السّياسي، وتعمل على القضاء عليه، بصفة نهائية، في المجال الاقتصادي، وهي ورشات، وفق رؤيته، كفيلة بتجسيد ذلك التّغيير، وإن لم يكن هو المطلب الذي ركّز عليه الحراك، وهو تجديد النخبة السياسية وتحقيق التغيير بمنهجية مغايرة لتدرجية النظام ورؤاه الإصلاحية.
يبدو، على الرغم من ذلك كلّه، أنّ محكّ المصداقية هو التّعديل الوزاري، لأنه ما يحمل الجزائريين على الاقتناع بوجود إرادة للإنصات إلى مطالبهم، ثم إرادة سياسية لاختيار الأكفأ للمناصب الحسّاسة ذات الصلة المباشرة بالانشغالات اليومية للمواطنين، خصوصا في ظلّ استمرار أزمة الجائحة، وما تعلّق بها من تداعيات معيشية تزامنت، لسوء الحظ، مع انهيار أسعار النّفط والآفاق غير الجيدة للاقتصاد العالمي، بما يكفل ارتفاعها في الوقت القريب لتستقر الموازنة الجزائرية، وتتمكن السلطة من تمويل المشاريع الاقتصادية.
جاءت قرارات الرئيس لتكون رهان بناء جزائر أخرى ومحك مصداقية التغيير الذي تملي السلطة وتيرة سرعته. وما يرجوه الجزائريون أن تكون الآفاق متجهةً نحو تجسيد التغيير المنشود الذي يجسد المستقبل المنشود، جزائر قوية وقاطرة للتنمية في الإقليم، ذلك أن مؤهلات البلاد كبيرة ومقوماتها تسمح لها بطموح في حجم تلك الآفاق المرجوة.. وإنّ غدا لناظره لقريب.