الأحلام مغزلاً لعقل لا ينتهي جنونه

24 ابريل 2025

(بول كلي)

+ الخط -

عجيبة هي الأحلام، لكنها ليست غريبة أبداً، فهي زبدة حرصنا وجنوننا أيضاً، هي عُريُنا وفنّنا ولوحاتُنا السريالية أمام أنفسنا نحن الذين لم نرسم أبداً، خجلنا أم داريْنا الخجل، أم نسيناه تماماً بعد اليقظة أو ملامة النفس، فتُصبح كأنها كانت كرموز من ماء وشربتها صحراء النهار وهموم العمل بعد طلوع الشمس، كي نكمل رحلة المداراة والعمل ونغسل فضيحتَنا بنعمة النسيان، نسيان أحلامنا.

الأحلام هي أمّ الحكايات التي لن تنتهي أبداً من مغازلنا، أول خيطٍ في آخر المغزل لا ينتهي أبداً بقطعة الصوف الكبيرة التي تمثل الكون الكبير الذي هناك، والذي لم نره، والمغزل هناك يعمل بقوة الجنون والسحر والإخلاص في العمل أيضاً، كي تكون الحكاية سند هذا الكون ومغزله، فما أعجب ذلك العقل النائم فينا ويعمل رغماً عنا ليلاً أو نهاراً، كي يغزل لنا تلك الأحلام من دون أن نمسك بها ومن دون أن يكف المغزل عن الدوران ما بين أصابع الأمل والعمل.

مغزلٌ يعمل بهمّة في أثناء نوم الكون، والعقل هناك يضبط من شطحاته إلى حدٍّ ما، كي لا تصير الغزلية جنوناً.

هناك يغني العقل ويتصالح إلى حدٍّ ما مع جنون المغزل ودورانه، وكأن المغزل يغني، فهل الحكاية أيضاً هي ذلك الغناء الذي لا ينتهي أبداً في مغازل الكلام؟ مغزلنا، ذلك الذي يضاهي الكون عجباً ويعمل في ثباتٍ وحكمةٍ وجنون، كي يبرهن أن العالم الذي هناك ولم يمت سيظلّ هو مادّة الغزل، والسعي إلى آخر الكون، مادةَ استمرار الحكايات على الألسنة في الصباح في المقهى أو على ظهر باخرة أو مركبٍ أو حافلةٍ يذهب أصحابها لجمع العنب أو التين أو عيدان القصب أو للهرب إلى ليبيا.

مغزل الحكاية والحلم يكاد يعمل معاً، حتى إن تصادمت المصائر والعلل، هكذا يظلّ الكون عامراً بالحكايات والأحلام والحروب والثقوب والمخاوف والمجاعات والقتل أيضاً، وتظلّ الحكاية هي الرجاء والأمل وبوابة المودّة والوصل في التعارف والكلام في قطارٍ أو مزرعة للدواجن أو في سوقٍ لتجارة الجمال أو الحمام أو العصافير أو بيع الحديد الخردة.

بوابة في سمرقند أو الشام أو الحجاز أو عدن أو تمبكتو، أو حتى في أسواق البهارات والبخور في روي بسلطنة عُمان.

الحكاية هي الرجاء والأمل والغناء الذي يظل يلاحق المغزل من هناك سعيداً، كي نصل أول الكون بآخره بحثاً عن الحظ أو الذهب أو الكنز، سواء كان الساعي وراء الكنز هناك في مراكش، ويريد أن يُمسك الذهب في الإسكندرية أسفل سور كنيسٍ أو في القاهرة، ويريد أن يحمل الكنز من سمرقند.

يظلّ المغزل في دورانه سعيداً في كل بلدٍ، حتى إن كان هناك ذلك الخراب في الحرب أو داخل المجاعة أو في تجارة خاسرة لوالد أبي نواس أو في مرض رامبو في أيامه الأخيرة مع خرائطه، وبوصلاته، وموسوعاته، ما بين أمله في الحبشة أو ألمه العظيم بجوار أسوار عدن.

الحكاية هي البئر الأول الذي نستخلص منه العبر وأطراف الحكايات الغامضة على حوافّ الممالك، بئر يشبه البئر الذي سقى منه موسى لبنات شعيب أو ذلك البئر الذي ألقى فيه أولاد يعقوب سيدنا يوسف ثم علّقوا دم الحكاية في رقبة الذئب، تلك الرقبة التي تتناسل منها كل الحكايات والأكاذيب بالطبع من آلاف السنين. ... هل ما زال الذئب المختلق قادراً على إدارة مغزل الحكاية بنباهة (وسطوة) الكذبة الأولى أو الألف بعد الأولى؟

لماذا دائماً يكون للكذب ذلك الجمال الشائن؟ حتى إن كانت الأكاذيب معلقةً في رقبة جمل أو فيل أو ناقة أو زرافة أو حتى غزالة ناعمة، ومعها رسالة غامضة لحبيب مجاور وراء حديقة ورد؟

مغزل استمرار الحكاية وهو مضفورٌ بجمال الورد، ويظل هناك ذلك الذئب أو تلك الغزالة أو ذلك الغرام أو ذلك البئر، مثل صيّادٍ لئيم ومؤدّب جداً يكمش وراء الحلفاء بفخاخِه في صمت، إلا أن هناك المغزل، لا يكفّ أبداً عن العمل أو الدوران فوق البحر أسفل الغيوم، وحتى مع غروب الشمس، كي ننتظر حكاية أخرى على المغزل لسامر الليل.