الأحزاب في لبنان والبلديات
مواطن لبناني يصوّت في مركز اقتراع في الضاحية الجنوبية لبيروت (4/5/2025/فرانس برس)
تكثر الأسئلة عن الانتخابات البلدية في لبنان والغاية من ٳجرائها، في توقيت لم يُنجَز معه مسار معالجة الأزمات وتداعياتها، ويؤدّي فيه ٳلى نتائج سياسية أكثر منها إنمائية، بانتظار الأموال والمساعدات، فاختلفت توصيفاتها والنظر إليها. فبعضهم رأى فيها عرساً ديمقراطياً، وآخرون اعتبروها تعبيراً عن حيوية الشعب اللبناني، في حين اعتبرها فريق ثالث امتحاناً شعبياً لأوزان الزعامات والقوى السياسية وأحجامها لا أكثر.
عكست الانتخابات وهم القوة الذي يراود بعضهم على عتبة الاستحقاق النيابي، مع أن مفاعيلها لا يمكن ٳسقاطها مباشرةً على الانتخابات النيابية المقبلة، وهي ما زالت تجرى على أساس القانون الأكثري الذي يستوجب تعديلات أساسية في الدورات المقبلة لتخدم الاتجاهات والتيّارات الحديثة في تطوير العمل البلدي على أساس تطبيقات اللامركزية الٳدارية والٳنمائية. لم تكن المعركة الأساسية هي الفوز في الانتخابات، بل في كسب الثقة، وتراكمها في ٳعادة تعريف شامل للعمل السياسي في المنفعة العامّة والخير العام، بعيداً من الطائفية والخدمات والخوف. وكان لافتاً أن تمنى لائحة التغييرين في بيروت بالفشل بعدما أوصلت ٳلى السلطة مجموعة وزراء ومستشارين. ويعزى الفشل إلى سوء الأداء والٳدارة لقوى التغيير، بسبب خلافاتهم وفرديتهم ونرجسيتهم، وبعدهم من تقديم نموذج تغييري جامع بديل من شعارات الزواج المدني والمثلية الجنسية ومبادئ النيوليبرالية الواهية.
معاينة الظواهر السياسية والاجتماعية التي أفرزتها الانتخابات تبقى من دون نتيجة، تواطؤ حزبي على قسمة كلّ ما هو عام؛ استخدام ما يوفّره النظام السياسي من ٳمكانات، أكان بشكل قانوني أم بالمخالفة للقوانين، لا فرق؛ عدم جهوزية شعبية في مواجهة قوى طائفية منظّمة لوجستياً ومالياً وٳعلامياً. تعتبر الأحزاب السياسية اللبنانية من سمات لبنان التاريخية في الحرية السياسية والحيوية الزائدة في مدى التنوع بين القوى والتنظيمات التي تراوح بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، وما بينهما من أديان ومذاهب. ولطالما تركت بصماتها على جوانب الحياة السياسية والاجتماعية منذ الثلاثينيّات، لكنّها بالغت في الركود والجمود خلال الأربعين سنة الماضية، ويصطدم التغيير فيها بعوائق السيطرة والمذهبية والطائفية والٳقطاع السياسي والانحيازات الإقليمية والصراعات الدموية والسلاح، ولم تعد تملك خطاً سياسياً واستراتيجياً واضحاً حين تعاني مع قواعدها والناس في أزماتها وعلاقاتها. لذلك، تتطلّب شروط تحقيق الحرية والديمقراطية أكثر من الانتخابات، في وقتٍ لم يتعزّز فيه كفايةً مشروع استعادة الدولة والدستور على أبواب تحوّلات وصول الرئيس جوزاف عون ٳلى الرئاسة الأولى، والقاضي نوّاف سلام إلى الحكومة، لتشجيع الأصوات الحرّة في العائلات والوسط الشعبي والأفراد المستقلّين للترشّح بتوسّعية في ملعب الأحزاب.
تعثّرت لوائح التغيير والمجتمع المدني في بيروت والمناطق، لا سيمّا مع خسارة ائتلاف بيروت مدينتي، ما شكّل صفعةً قاسيةً لمسار التغيير، وهي مناسبة للبحث عن الأخطاء وتعزيز عمليات العمل السياسي المدني على أسس سليمة تكسر توازن قوى الزبائنية الطائفية التي جمعت الأضداد في لوائح ائتلافية، ما عكس مناعةَ القواعد الحزبية على تبايناتها الأيديولوجية في احتواء خطر المستقلّين، بسبب أزمة ثقة الناخب اللبناني الساخط على كلّ شيء، وهو لا يملك الرؤية الواضحة مع التاريخ الطويل من التبعية الحزبية والانهيارات الاقتصادية في الرهان على وجوه جديدة من دون ضمانات، في حين تملك القوى التقليدية الوعود بالخدمات. لذلك، يتحمّل التغييريون أعباءً كبيرةً من دون الأخذ بالاعتبار عمل النظام السياسي والقوى المشاركة فيه تقليدياً.
غذّت الأحزاب الطائفية في بعض المناطق هموم ومخاوف الناس لتبرير إنتاج مجالس بلدية شبيهة بالتي كانت عليه 2016
وتحتاج العاصمة بيروت، كما باقي المدن، معالجة كبيرة للواقع الديمغرافي، والمناخ العام المنقسم مذهبياً، وللدوران في حلقة مفرغة من دوامة الصمت مع أرقام الممتنعين عن التصويت (نحو 80% في بيروت وطرابلس). وهذا يحتاج ٳلى ٳحداث خرق في الجدار السنّي الممتنع عن التصويت مع قرار ٳقصاء سعد الحريري من العمل السياسي، مع ما يستبطنه ذلك من أخطار على السلم الأهلي، وعلى طبيعة التوازنات الداخلية، وترجمة الاندفاعة السيادية، ودعوات نزع سلاح حزب الله. ولا تزال الحريرية السياسية "الوجدان الغالب" للسُّنة، الذي لم يرثه أيّ مكوّن أو مجموعة مكوّنات قائمة أو مستحدثة.
في المناطق الأخرى، غذّت الأحزاب الطائفية هموم ومخاوف الناس لتبرير إنتاج مجالس بلدية شبيهة بالتي كانت عليه 2016. وتحت شعار السلم الأهلي بين العائلات، عمدت لتشكيل لوائح تستعيد فيها حضورها، وخاضت الانتخابات بأجندة سياسية، وليس على أساس المشاريع والأولويات الاجتماعية واحترام خيارات الناخبين، والكفّ عن التهكّمية والسخرية من وعي الناس، ومصادرة الواقع الذين يعيشون فيه، ويشعرون أنه زمن الخوف والتحوّلات، لا زمن "التغيير الأكاديمي" الذي تطرحه حكومة سلام.
كان البارز النزعة لدى الطرف المسيحي (القوات اللبنانية) لتوسعة قاعدته على حساب الأطراف المسيحية الأخرى، وعلى حساب الاعتراف بالشراكات والتعامل معها بواقعية، ما قد يحصنّ التعدّدية بمواضيع لا علاقة بنهجه غير العلماني. ومن غير المعروف ٳن كان ذلك سيصبّ في صالح قيام الدولة وتنفيذ اتفاق الطائف، ٳذ ليس سهلاً أن ينتقل الحزب المسيحي المتشدّد في غياب الديمقراطية إلى حالة طبيعة لينّة تسمح بتوسيع سلطة جوزاف عون على مستوى الحكم ككلّ، وتسهم في تنمية الوعي الوطني وصهر المجتمع، لا سيّما أن البلد مقبل على فترة من مواجهة التطبيع تتطلّب تعزيزاً للوحدة الوطنية.
لبنان مقبل على فترة من مواجهة التطبيع تتطلّب تعزيزاً للوحدة الوطنية
جنوباً، لم يخرج لبنان من حربه مع ٳسرائيل، والقصف لم يتوقّف، خصوصاً أن نحو 50 قرية حدودية مدمّرة تدميراً كاملاً أو جزئياً وأهلها مهجّرون، غير أن مجرّد ٳجراء الانتخابات هو تأكيد للصمود، وأن حزب الله (المطالب بنزع سلاحه) جزء من المشهد العام، ويميل ٳلى التعاون مع رئيس الجمهورية ورغبات المجتمع الدولي في مسألة حيوية جدّاً. لكنّه أخطأ في بيروت، حين لم يقف على الحياد ويرسل رسالةً ودّيةً إلى الغالبية السُّنية التي احتضنته في الحرب وفي تصفير مشاكله مع الجمهور المديني، وكان بمقدوره مع اللوائح الأخرى تحقيق التوازنات والمناصفة. فأعطى انطباعاً بأن همّه الفوز فقط، وبأن الثنائي الشيعي في سائر مناطق نفوذه يتمتع بغطاء شعبي خالص، وبأن مسألة سقوط سلاحه مسألة معقّدة.
لن تتخلى الأحزاب عن مواقعها والمغانم الناتجة منها، فعادت تحرّك آلياتها ومادّتها السياسية ووقودها في الحياة الاجتماعية من خلال بوابة البلديات في إطار يخرج من طبيعة عمل الأخيرة في السياسة والاقتصاد، من دون أن تقدّم كشفاً للوقائع، ولا تبياناً لسلوكاتها وممارساتها التي أوصلت البلاد ٳلى حالة الانهيار. مع ذلك، يمكن أن تشكّل مرحلة حكم الرئيس جوزاف عون نقطة تحوّل رئيسة في الحياة الحزبية، وفي ٳعادة النظر في تركيبتها ومبرّرات وجود عدد كبير منها، ونشوء حركة توعيّة مستجدّة مع مشاريع التطوير والإصلاح ومحاربة الفساد على أساس مواطنة حزبيّة تخرج من مجمل التعقيدات والمعوقات المحلية والإقليمية لترجمة التطلّعات والرغبات ووسائط الحُكم.
يبقى أن شيئاً مطلوباً من التواضع في التوجّه نحو هموم الناس وحاجاتهم، وهي ليست بالضرورة هموم الأحزاب حين تُمعن في تكريس السلبيات الداخلية بروفةً تجريبيةً لمرحلة من الاستقطاب في الانتخابات النيابية المقبلة، ما يشبه صفحة الانقلاب على الأوضاع، تنذر بمرحلة من تشتّت وتمزّق وتحوّل في المسار وانعطافه في ظلّ المخاطر الإسرائيلية، وفي مواجهة الضغوط الٳقليمية والدولية.