الأبعاد الثقافية في المؤشّر العربي

الأبعاد الثقافية في المؤشّر العربي

12 أكتوبر 2020
+ الخط -

يفتح المؤشّر العربي، الذي أعلن نتائجه الأسبوع الماضي المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، شهية المهتمين بالإحصاءات للحديث عن فكرة المؤشّرات وأهميتها في منطقةٍ من العالم، مثل المنطقة العربية، تطمح شعوبها إلى مزيد من التنمية والتطوير على كل الصعد والمحاور، ما يجعل لقياس المؤشّرات فيها أهميةً استثنائيةً لتحديد ماهية الأحوال التي يعيشها الناس في هذه البلدان. وكان يمكن أن يكون لهذه المؤشّرات أهمية أكبر لو أنها ترتبط بخطط عمل نهضوية استراتيجية، تنفّذها الدول العربية على الشاكلة التي قامت في بلدان شرق آسيا مثلاً، إذ كان ذلك سيجعل لهذه المؤشرات قيمةً كبرى لصانع القرار، يعرف من خلالها ماذا أنجز وإلى أين يتجه، كذلك للمتابعين ولكل فردٍ يعيش على هذه الأرض. لكنها، والحال ليست كذلك، تبقى مؤشّراتٍ مهمةً تشرح الأحوال الراهنة، والتغيّرات التي طرأت عليها في السنوات الأخيرة، على أكثر من صعيد.
المؤشّر العربي الذي يبدو واضحاً أنه أكبر وأهم مسح جاد يجري الإعلان عنه في البلدان العربية يظهر، للوهلة الأولى، معنياً بالمسائل السياسية والاقتصادية الاجتماعية، كالديمقراطية والربيع العربي والعلاقة مع أنظمة الحكم والقضية الفلسطينية وإسرائيل والظروف المعيشية ومدى كفاية دخل الأسر، من خلال تفحّص نظرة الشعوب العربية إلى هذه المسائل في الأقاليم العربية الأربعة التي يحدّدها الاستطلاع: المغرب العربي، وادي النيل، المشرق العربي، والخليج العربي. وهو في هذا يسأل الشعوب العربية عن نظرتها إلى ما يجري حولها سياسياً، وما يجري معها معيشياً، ولعله سيكون مفيداً لو أمكن، في مرة مقبلة، سؤال هذه الشعوب عن أحوالها الثقافية؛ أي سلوكها وقيمها.
أجد، كمهتم بقياس المؤشّرات، أن من المفيد استكشاف أحوال الشعوب العربية في مسائل مثل نظرتها إلى التعدّد والإختلاف العرقي والديني في المجتمعات، تقبّلها الرأي الآخر، كيفية فهمها فكرة الوطن والشراكة فيه، احترام القانون، كيفية التعامل مع الفضاء العام، فكرة التطوّع والخدمة العامة، ومثل ذلك من الأبعاد الثقافية التي تُكمل ما جاء عليه الإستطلاع من أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية.

من المفيد استكشاف أحوال الشعوب العربية في مسائل مثل نظرتها إلى التعدّد والاختلاف العرقي والديني في المجتمعات

المسألة الثقافية الأساسية التي جاء عليها المؤشّر العربي هذه السنة (كما سنوات سابقة) تتعلق بموضوع التديّن. ويمكن قراءة نتائجها في الأجزاء الأولى من محور "دور الدين في الحياة العامة والسياسية"، إذ خلص تقرير المؤشر إلى أن "مواطني المنطقة العربيّة ينقسمون إلى ثلاث كتل، أفادت أكبرها بأنّها متديّنة إلى حد ما بنسبة 63%، مقابل 23% من المستجيبين أفادوا بأنهم متديّنون جداً، و12% قالوا إنهم غير متديّنين". ولم يلحظ التقرير وجود تغيّرات في هذه النسب عمّا كانت عليه الحال في السنوات الأخيرة الفائتة. أما عن تعريف المتديّن، فقال المؤشّر إن أغلبية الرأي العامّ العربي، وبنسبة 58%، "تنحاز إلى التركيز على سمات أخلاقية وقيمية بوصفها أهم شرطٍ يجب توفره في شخصٍ ما كي يعدّ متديّناً". وقد لاحظ التقرير هنا أيضاً أن الرأي العام العربي لم يعرف تغيّراً كبيراً على هذا الصعيد عبر السنوات الماضية. أما المسألة الثقافية الأخيرة في محور التديّن، قبل أن ينتقل التقرير إلى مسائل التديّن السياسية، فقد خرج منها التقرير بنتيجة مفادها بأن "أغلبية الرأي العامّ ترفض مقولة أنّ كلّ شخص غير متديّن هو شخص سيئ، كذلك ترفض تكفير الذين ينتمون إلى أديانٍ أخرى، أو الذين لديهم وجهات نظر مختلفة في تفسير الدين".

المسألة الثقافية الأساسية التي جاء عليها المؤشر العربي هذه السنة (كما سنوات سابقة) تتعلق بموضوع التديّن

ولأن الشيء بالشيء يُذكر، يحضرني هنا أن مؤسسة العمل الثقافي للمدن العربية التابعة لمنظمة المدن العربية بادرت، قبل سنوات، إلى استحداث "مؤشّر التنمية الثقافية في المدن العربية"، ليقيس عشرة جوانب ثقافية في سلوك مجتمعات المدن العربية، يعطي كل منها قيمة نسبتها 10% من القيمة الإجمالية للمؤشر، على سبيل الإحصاء، ثم يخرج بنسبة مئوية في كل مدينة عربية تؤشّر على مستوى "التنمية الثقافية" في تلك المدينة. والهدف من ذلك مساعدة بلديات تلك المدن في تحديد اتجاهات عملها الثقافي، من أجل النهوض ثقافياً بمدنها.
وخلال عام 2018، جُمعت بيانات لقياس المؤشّر في سبع مدن عربية، كانت نتائجها: القاهرة (مصر) 41.25%، عمّان (الأردن) 51.6%، الرباط (المغرب) 61.8%، الخليل (فلسطين) 41%، أريحا (فلسطين) 40%، مراكش (المغرب) 40%، إربد (الأردن) 51.4%. ويلاحظ أن المدن التي تنتمي للدولة نفسها جاءت نتائجها متقاربة، وذلك طبيعي لأنها تعيش الأحوال الثقافية نفسها.

تمكّننا قراءات المؤشّر من استطلاع اتجاهات تغيّر الأحوال المعيشية في الأقاليم العربية الأربعة المستهدفة

استندت الأرقام على مسح إحصائي سأل عينة المستجيبين عن مسائل مثل: احترام القانون، النظرة إلى مشاركة المرأة في الحياة العامة، احترام الإختلاف الديني، النظرة إلى مشاركة الشباب، المصادر التي يحصل منها الفرد على المعرفة، ممارسة الفرد الرياضة، النشاطات الموجهة إلى الأطفال في المدينة، وغيرها. وقد أظهرت نتائج مؤشّر التنمية الثقافية في المدن العربية أن مجتمعات مدننا تحتاج مزيداً من العمل للارتقاء بسلوكها ومنظومة قيمها، وأن ما أحرزته معظمها من تنميةٍ ثقافيةٍ ما تزال تُعتبر متوسطة.
الشاهد هنا أن من المفيد تفحّص هذه الأبعاد، إلى جانب الأبعاد السياسية والاجتماعية، للوصول إلى تصور أكثر شمولاً لأحوال الناس في هذه المنطقة من العالم. ولا بد أن لدى القائمين على المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات من القدرات وسعة الأفق ما يجعلهم يصلون، من خلال ضم الأبعاد الثقافية إلى مؤشّرات الأعوام المقبلة، إلى نتائج على درجة عالية من الأهمية والفائدة، تخدم من يحتاجها في تطوير أعماله، كذلك تمكّن من يتابعها من قراءة اتجاهات تغيّر الأحوال الثقافية في العالم العربي مرّة بعد أخرى، إنْ تحسّناً أو تراجعاً، تماماً كما تمكّننا قراءات المؤشّر في هذه السنة والسنوات السابقة من استطلاع اتجاهات تغيّر الأحوال المعيشية في الأقاليم العربية الأربعة المستهدفة، كذلك اتجاهات تغيّر الآراء السياسية لدى الشعوب العربية.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.