الآخر الذي سينقذنا

24 يونيو 2025   |  آخر تحديث: 10:05 (توقيت القدس)

(نوري الرواي)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

يتداول عراقيون كثيرون وصفاً يعتبرونه أشبه بالمسلَّمة: لقد أسقطت أميركا نظام صدّام حسين، ثمّ سلّمت العراق لإيران على طبق من ذهب (أو فضّة). في الحقيقة، يمكن أن يصدق هذا الوصف على مجريات الأحداث بعد الانسحاب الأميركي في ديسمبر/ كانون الأول 2011، إذ بدأت سلسلة من التداعيات الكاشفة ضعف سيطرة الحكومة العراقية، وارتباك النظام السياسي، وعدم قدرتها على ملء الفراغ الأمني، واستمرار الصراع على السلطة والثروة بين المجموعات السياسية، مرّة داخل المكوّن الواحد، ومرّات أخرى في خطوط التماس الطائفي والعرقي، وصولاً إلى ذروة انفجار الأوضاع في يونيو/ حزيران 2014، حين احتلّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) محافظة الموصل ومدنها المختلفة.
لم يستطع الكيان المعنوي والمادّي للدولة الجديدة أن يملأ فراغ مغادرة الأميركيين بمعدّاتهم ومستشاريهم ومراقبتهم للوضع الأمني وأداء المسؤولين الحكوميين، فتسلّلت إيران بهدوء، ثمّ دخلت بقوّة خلال عمليات الحرب ضدّ "داعش"، وصارت لاحقاً أمراً واقعاً، وجزءاً من غرفة العمليات المشتركة في الحرب. ثمّ بعد انقشاع غبار المعارك، رفعت حلفاءها من الفصائل المسلّحة إلى البرلمان العراقي، وإلى مختلف الأجهزة الأمنية، وصارت المتحكّم الفعلي بالبلد، في حالة من النوم الحذر مع العدو (الأميركيين) في سرير "عراقي" واحد.
ولكن، هل كانت هذه خطّة أميركا منذ البداية؟... في الحقيقة، الأميركيون بارعون في إنجاز الأعمال إلى منتصف الطريق وتركها، بسبب تغيّر الإدارات أو الارتجال. من الصحيح أن المسؤولين في إدارة بوش دافعوا عن مشروع غزو العراق بأنه (جزئياً) يتضمّن هدفاً مهماً هو مواجهة الإرهابيين هنا (في العراق) بدل توجّههم إلى أميركا، فقالت كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي آنذاك، إن العراق صار مغناطيساً للجهاديين، ولكنّهم ربّما ظنّوا أن هذه المهمة لن تؤثّر في الهدف الأكثر أهميةً؛ إنشاء نظام مستقرّ.
من أجل هذا النظام المستقرّ، أنجزت أميركا تفاهماتٍ غير مكتوبة مع حكومة محمد خاتمي الإصلاحية في إيران، من خلال الدبلوماسي الأميركي من أصل أفغاني زلماي خليل زادة، خلال الحرب في أفغانستان، وأوضح الأميركيون للإيرانيين أن لهم مصلحة في إزالة نظام صدّام حسين وما يمثّله من تهديد دائم لهم، بالإضافة إلى أن الفصائل الشيعية التي تدعمها إيران ستكون جزءاً من النظام الجديد. وبالفعل، تركت إيران لممثّلي المجلس الإسلامي الأعلى أن يسافروا من إيران ليحضروا اجتماعات المعارضة، التي تشرف عليها أميركا.
ولكنّ النفوذ من خلال بعض الأحزاب الشيعية لم يعد كافياً، وتغيّر بعد فوز محمود أحمدي نجاد بالرئاسة في يونيو/ حزيران 2005، وصعود التيّار المتشدّد الذي رأى ضرورة الضغط من أجل إخراج أميركا من العراق، وجرى نقل ملفّ العراق من وزارة الخارجية الإيرانية إلى الحرس الثوري. وابتداءً من منتصف ذلك العام سنرى صعود قوس أعمال العنف ليغطّي كامل السنتَين اللاحقتَين بشكل غير معقول، من خلال تضافر مجهود المخابرات السورية التي فتحت للجهاديين باب العبور إلى العراق، وسهّلت تسلُّلهم من الحدود الإيرانية، وكذلك دعم الفصائل والمليشيات الشيعية.
كانت نقطة التحوّل للخروج من جحيم الاحتراب الأهلي هي "ضربة البوكمال" في أكتوبر/ تشرين الأول 2008، حين نفّذ الجيش الأميركي عمليةً داخل الأراضي السورية ضدّ معسكرات الجهاديين، في ما يشبه رسالةَ تحذير للحكومة السورية، ثمّ نجح قائد القوّات متعدّدة الجنسيات (في ذلك الوقت)، الجنرال ديفيد بترايوس، في تصفية جيوب الجهاديين داخل العراق، ودعم رئيس الوزراء المالكي آنذاك لضرب المليشيات الشيعية، وصارت الأوضاع العامّة تتّجه إلى الهدوء شيئاً فشيئاً حتى عشية الانسحاب الأميركي.
جزء كبير من اضطراب الأوضاع في العراق (خلال تلك السنوات) تتحمّله حكومة الرئيس السوري المخلوع بشّار الأسد، ولكن جزءاً آخر من المشكلة، أطول أثراً، يأتي من بقاء العراق ملفّاً بيد الحرس الثوري الإيراني منذ 2005 إلى اليوم. قال لي أحد الأصدقاء في وقت مبكّر من تلك السنوات، إن إيران لا تقتحم وإنما تملأ الفراغات. وأتذكّر كلام هذا الصديق حتى أصوغ الاتهام التالي: المشكلة ليست في تمكّن الحرس الثوري من مقدّرات العراق، وإنما في النُّخبة السياسية العراقية التي سمحت بذلك.
واليوم، في ظلّ التصدّع الذي تعانيه إيران، واحتمال إفلات العراق من يدها، يفكّر بعضهم في تلك اليد الخارجية التي سترتّب أوضاع العراق كي يكون أفضل وأحسن، متناسين مرّة أخرى الدور الحاسم والمسؤولية الكُبرى للنُّخب العراقية السياسية والاجتماعية والدينية تجاه هذه المهمة الخطيرة.