اغتيال فرج فودة... مع من وقفت الدولة المصرية؟

يبدو لمن يتابع قضية اغتيال فرج فودة الآن أن الدولة المصرية معه، تقدّمه شهيداً "رسمياً"، تعيد ترميم مناظرته مع الإسلاميين، وتمنحها "ختم النسر". تدين قاتليه الآن، وتدين من أفتوا برِدّته، وتدين محمّد الغزالي لأنه برّر قتله في شهادة أمام المحكمة. بل تدين محمّد عمارة الآن لمناظرته فودة، باعتبارها كانت سبباً في قتله. فهل كان ذلك هو موقف الدولة من فودة، ومن خصومه، سواء القتلة أو من المناظرين قبل موت فودة؟
تعالوا نسأل، بدلاً من الإجابة المباشرة، أسئلة أخرى تساعدنا في الفهم، فهم الدولة وموقفها، وفهم الطريقة التي تعمل بها، مع الإسلاميين ومع العلمانيين، وقدرتها على توجيههم ممثّلين يقومون بأدوارهم المرسومة، في فيلم تنتجه الدولة وتخرجه وتجني أرباحه وحدها.
هل ساهمت الدولة المصرية في توصيل فرج فودة إلى القارئ؟ هل طبعت كتبه؟ هل استوعبه مشروع مثل مكتبة الأسرة، ولو في عنوان واحد؟... الإجابة لا، لا مكتبة الأسرة ولا غيرها، مع العلم أن المشروع (رحمه اللّه!) كان سبباً في معرفة جيلنا بكتابات الشيخ محمّد الغزالي، إذ نشر له عناوين هي الأكثر أهميةً، والأجمل في مسيرته، منها "السُّنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، و"قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة"، و"ركائز الإيمان بين العقل والقلب"، و"كنوز من التراث"، هذه العناوين وغيرها قرأناها كلّها بأسعار زهيدة في مشروع مكتبة الأسرة، الذي نشر أيضاً لمحمّد عمارة بعض عناوينه، وأغلب تحقيقاته، فلماذا لم يستوعب هذا المشروع، أو غيره، عنوانا واحداً لفرج فودة، قبل قتله أو بعده، قبل الثورة أو بعدها، مع حسني مبارك أو مع عبد الفتاح السيسي؟ لم يحدُث، ولن يحدُث. لماذا؟... لأن دور فرج فودة في الفيلم أن يموت، وأن تبكيه الدولة في أوقات الصراع، مع الإسلاميين، وأن تنساه في أوقات الفراغ.
ثمّة معلومات غائبة من مشهد "الخناقة" أو المناظرة الشهيرة بين فودة والإسلاميين، في معرض القاهرة للكتاب، تخبرك بوضوح أن المطلوب لم يكن مناقشة، بل "مجزرة"، تثبت فيها الدولة للإسلاميين أنها تدعمهم، وللعلمانيين أنها تحميهم، خذ مثلاً؛ لم يكن عمارة طرفاً في الندوة، بل مديرها (اختارته الدولة)، كانت المناظرة بين محمّد الغزالي ومرشد الإخوان محمّد المأمون الهضيبي في طرف، وفرج فودة ومحمّد أحمد خلف الله وحسين أحمد أمين (اعتذر) في طرف آخر، هكذا كان الإعلان عن الندوة، وهكذا ظلّ إلى "شروق يوم العملية"، ثمّ اتصل سمير سرحان بعمارة وهو يستعدّ للذهاب إلى المعرض ليخبره باعتراض فودة على إدارته، وتوقّعه أن عمارة لن يكون محايداً، وطلب سرحان من عمارة الانضمام إلى المتناظرين، وأخبره أنه سيدير المناظرة بنفسه، وهو ما سجّله عمارة في كتابه، الذي نشر فيه نصّ المناظرة "مصر بين الدولة المدنية والدينية" (مكتبة وهبة، القاهرة). وذهب عمارة إلى المناظرة غاضباً، ومن دون تحضير، وأدار سرحان الندوة إدارةً ضعيفةً، كان فودة وخلف الله أكثر المتضرّرين منها.
خذ مثلاً آخر؛ تضرّر طرفا النقاش ممّا حدث في المناظرة الحكومية، واتفقا على جزء ثانٍ. وفي هذه المرّة، وافق فودة على إدارة الإسلاميين للندوة، بعد تجربته مع سرحان، ونظّمت في نادي المهندسين بالإسكندرية، وأدارها الدكتور الشافعي بشير، وتمكّن (لمكانته عند الإسلاميين) من السيطرة على جمهور الندوة، وأغلبه من الإسلاميين، ومنح طرفي الندوة ما أرادوه من فرصة ووقت، وتجاوزت المناقشة أربع ساعات، وهي من أثرى المناقشات الجادّة (لا المناظرات الشعبوية) بين الطرفَين، وكانت بين فرج فودة وفؤاد زكريا في طرف، ومحمّد عمارة ومحمّد سليم العوّا في طرف آخر، والآن نسأل: ما موقف الدولة المصرية من هذه المناظرة؟ لماذا لم تهتم بترميمها وتقديمها ضمن تراث فودة (رغم تألّقه فيها)؟ لماذا حرصت على الاحتفاء بـ"الخناقة" وتجاهل "المناقشة"؟ لماذا دعمت السياقات المحرّضة على "مجزرة"، وتجاهلت سياقات داعمة لـ"حوار"؟... سأترك الإجابة (مؤقّتاً) للقارئ.