اعتناق الصمت

اعتناق الصمت

21 ديسمبر 2020

(وجيه نحلة)

+ الخط -

قال سبينوزا "لو كان للبشر الرغبة نفسها في الصمت مثل رغبتهم في الحديث لكان العالم مكانا أجمل". وقال كونفوشيوس "الصمت هو الصديق الوحيد الذي لن يخونك أبدا". وقال الأصمعي "الصمت أول العلم". وعرّفه غسان كنفاني بأنه صراخ من النوع نفسه، لكنه أكثر عمقا وأكثر لياقةً بكرامة الإنسان. فيما صرّح الممثل الأميركي، آل باتشينو، بأنه عادة ما يعتنق الصمت أمام السفهاء. وقد تناول فلاسفة وشعراء ومفكرون كثيرون فضائل الصمت، باعتباره نأيا بالذات، ووسيلة نجاة من سطوة الرثاثة، وأداة تعبير قوية عن الرفض والاحتجاج على الإسفاف، واعترافا بالعجز إزاء كم الجهل والتفاهة والابتذال التي باتت عناوين وعلامات فارقة في هذا الزمن العجيب.
مثلا، ماذا بإمكانك أن تعلق على تصريحات نجم غنائي محبوب، المفترض أنه يتمتع بالخبرة والثقافة، بحكم السن على الأقل، يتابعه على مواقع التواصل الاجتماعي ما يفوق 15 مليون شخص، متوقع منه، والحال هذه، أن يحسب ألف حسابٍ لأي كلمةٍ تصدر منه على الملأ، كونه شخصية مؤثرة يصدّقه المتابعون، ويعتبرونه مثلا أعلى يُحتذى به، وهو يتحدّث، بمنتهى الجهل والعبث، بدون أدنى إحساسٍ بالمسؤولية، إنه لن يأخذ لقاح كورونا لعدم الثقة في جدواه. ويقول المطرب الجهبذ، بالحرف الواحد، إن كورونا مؤامرة واللقاح مؤامرة أكثر قذارة! ويحثّ الناس على عدم التصديق، حرصا على حياتهم. ماذا يمكن أن تفعل سوى أن تشد شعرك غيظا إزاء تصريحات مغنيةٍ لا تقل شهرة ونجومية وتأثيرا، وهي تنظر، ببلاهةٍ عز نظيرها، عن حقوق المرأة، وتؤكّد، في سياق محاباتها الغبية الرجل، أنها لا تحب أن تزيد حقوق المرأة عن حدّها! علما أنها ليست جاهلة، بل كانت تعمل في حقل التدريس قبل احترافها الفن. وماذا عن الممثلة الجميلة التي حازت الشهرة وملايين المتابعين، بسبب جرأتها في ارتداء ما يحلو لها من الملابس المثيرة، وهي تهذرب بأنها لا تمانع بإقامة ابنها علاقات جنسية، لأن الرجل لا يعيبه شيء.
وعلى صعيد متصل، ماذا يمكن لك أن ترد على بيان غريب اللهجة، صادرعن اتحاد طلبة كلية الشريعة في الجامعة الأردنية، تم حذفه فيما بعد من الموقع الإلكتروني للاتحاد، بسبب وابل التعليقات المندّدة بتوجههم المتشدّد، الكاره للآخر المتوهم احتكار الحقيقة والفضيلة. ينتقد البيان المحذوف إضاءة إدارة الجامعة شجرة الميلاد، وقد جاء في البيان ".. ومن هنا، فإننا نشهد أن ما قامت به الجامعة من إضاءة شجرة الميلاد أمر لا يرضاه الله عز وجل، ولا يقبل به، في دولةٍ دينها الإسلام، ولنشهد الله أننا منه براء". وماذا تفعل سوى التحسّب عند الله عز وجل، قائلين عليه العوض ومنه العوض، عند الاستماع إلى إجابة داعية شهير على سؤالٍ عن تخلفنا في مجال العلوم والتكنولوجيا، قائلا "ما لهذا خلقنا"، مستطردا، بلهجةٍ استعلائيةٍ فوقيةٍ ليس لها ما يبرّرها، بأن "الله سخّر الغرب لخدمتنا". وتضجّ مواقع التواصل بالفتاوى والخرافات والأحكام الصادمة والمحتوى السطحي الساذج الذي يحقق ملايين المشاهدات كلما ارتفعت نسبة التفاهة.
وفي وسط كل تلك الفوضى والضجيج الأجوف والهراء الممنهج، يبدو الصمت حاجةً نفسية ملحة، وحلا لا مناص منه، حفاظا على جملتنا العصبية، وتوازننا النفسي، وقدرتنا على ضبط النفس، في مواجهة مرحلة عصيبة مربكة من تاريخنا المعاصر، حيث يعلو صوت الجهل والتخلف، وتعمّم الرداءة والسطحية والانهماك بصغائر الأمور. ويغيب العقل والمنطق، ويحارب أصحاب الفكر المستنير الذين يلتزمون الصمت قهرا، على الرغم من أن في الفم ماء كثيرا.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.