اصطفافات جديدة تعزّز الكارثة
(فاتح المدرس)
في عام 2011، مع بدايات الثورة السورية، حدثت انقسامات حادّة في المجتمع السوري، طاولت حتى العائلات والأُسر، ولم تقتصر على الكتل المجتمعية المختلفة (دينيةً ومذهبيةً ومناطقيةً). انقطعت أواصر أُسر وأزواج وأصدقاء (خسرت كاتبة هذه السطور أصدقاء عُمُرٍ انحازوا إلى النظام وردّدوا سرديته ضدّ الثورة والثوّار)، وتشكّلت بنية علاقات جديدة، قوامها الانحياز إلى الحدث الثوري وظروف اللجوء والهجرة إلى مجتمعاتٍ جديدةٍ غريبةٍ في لغتها وعاداتها، فرضت على السوريين وقتها المزيد من التلاحم والتكتّل في مجتمعاتٍ خاصّة بهم، خصوصاً في السنوات الأولى، حين كان العمل في الإغاثة ودعم المناطق المُحاصَرة ومناصرة المهجّرين والضحايا يستلزم تكاتفاً جمعيّاً من سوريّي الخارج.
تشكّلت وقتها علاقاتٌ بين أفرادٍ سوريين ما كانوا ليكونوا أصدقاءَ، لولا تلك الظروف التي نتحدّث عنها. ومع مرور الوقت، وانشغال البشر في حياتهم اليومية، وخروج الوضع السوري من أيدي السوريين وثباته على ما كان عليه في سنوات الأسد الأخيرة، لم يعد أولئك السوريون يلتقون إلا في المناسبات، عدا الذين استطاعوا الشغل في بنية تلك العلاقات وتحويلها من علاقة مؤقّتة، فرضها ظرف سياسي ما، إلى علاقات صداقة متينة لا تخضع لمزاج المتغيّر السياسي.
سقط الأسد وانتصرت الثورة، وعمّت الاحتفالات بالنصر المجتمعات السورية كلّها في الخارج، مثلما حدث في الداخل السوري. الفرح والنشوة بالانتصار جعلا السوريين يشعرون كما لو أنهم استعادوا سورية جميعاً، ومعها استعادوا الثقة بأنهم أبناء مجتمع متماسك ومتين، فما فرّقهم ذات يوم قد اختفى الآن، ما يعني أن القُطَب المفكوكة في بِساط المجتمع قد رمّمها الانتصار واستعادة الوطن وهُويَّته. لكنّ هذا لم يدم فترةً طويلةً. انتهت الأفراح وليالي النصر الملاح، وبدأ الواقع الهشّ والمهترئ يتكشّف شيئاً فشيئاً، ومع كلّ انكشاف كان ثمّة صدمة كبيرة وقاسية تغلق (شيئاً فشيئاً) نوافذ الأمل المفتوحة على آفاق مستقبلٍ سوريٍّ جديد يتسم بالعدالة والشفافية، والتغيير الشامل لكلّ البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي رسّخها نظام الأسد عبر 50 عاماً.
لكن الانتهاكات (سمّيت فردية) بحقّ العلويين مبدئياً، ثمّ مجازر الساحل السوري، ثمّ ما حدث في مناطق الدروز في ريف دمشق ومحافظة السويداء، والخطاب الطائفي التحريضي المعمّم في وسائل التواصل، الذي يقوده إعلاميون مقرّبون من السلطة المؤقتة، وإقصاء وتهميش شرائحَ واسعة من المجتمع السوري، والتّدخل السافر في عادات السوريين وحياتهم الاجتماعية، والأسئلة المُحرجة عن طوائفهم، والغياب الكامل للعدالة ومعاقبة المرتكبين... ذلك كلّه ترك الباب مفتوحاً للعدالة الانتقامية، والثأر على الطريقة القَبلية، وفلتان الوضع الأمني وعدم القدرة على ضبطه. ومع كثير ممّا يحدُث يومياً، أُسدل الستارُ نهائياً على حلم سورية الجديدة الموحّدة، ودُقَّ مسمارٌ أخير في نعش الهُويَّة الوطنية السورية لمصلحة هُويَّات ما قبل وطنية، خصوصاً الدينية والطائفية.
انعكس هذا التغيّر على العلاقات المجتمعية وأعاد الاصطفافات السابقة إلى نقطة الصفر، لتبدأ اصطفافاتٌ مبنيةٌ على الموقف من السلطة الحالية، ومعظمها ذو طابع طائفي يعزّز الخراب القائم. وكما حدث في أوّل الثورة، الانحياز هنا أيضاً متطرّفٌ ويصل إلى حدّ القطيعة، وكأنّه لا يجوز لأحد أخذ مسافة ما لفهم سياقات ما يحدُث، والتريّث في الحديث عنه، أو كأنّ ثنائية "مع أو ضدّ" القاتلة يجب أن تبقى هي السائدة، وهي (للأسف!) مدعّمة من السلطة المؤقّتة بالكامل، ما أبعد من واجهة المشهد السوري العام شخصيات مؤهّلة عِلمياً واقتصادياً ومجتمعياً ودولياً للمساهمة في إعادة ترتيب أولويات السوريين لبناء سورية الحلم، لمصلحة شخصيات ميزتها الوحيدة هي التطبيل لكلّ ما يصدر من السلطة، وترويجه، وإيجاد المبرّرات والذرائع للأخطاء القاتلة التي سوف تؤدّي حتماً إلى تفتيت سورية التي نعرفها.
أمّا أسوأ ما يحدث الآن فهو أن يُعتبَر الشبّيحة السابقون من مؤيّدي مجازر الأسد واقفين في صفّ واحد مع الديمقراطيين والعلمانيين ممّن يعترضون اليوم على سياسات ومجازر السلطة المؤقّتة، بقوة اعتراضهم نفسها على سياسات الأسد ومجازره، وهو لا يقترب من الحقيقة قيد أنملة، ذلك أن ما نراه اليوم ليس سوى نتيجة سلسلة طويلة ومهولة من الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد، وهلّل لها مؤيّدون لا يملكون ضميراً وطنياً، ولا يختلفون عن مؤيّدي جرائم اليوم وضمائرهم الميّتة.