اسمه جمال بن إسماعيل

اسمه جمال بن إسماعيل

17 اغسطس 2021
+ الخط -

يكون حسنا من الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبّون، لو يستجيب لطلب مثقفين في بلده، أدباء في غالبيتهم، منه، تخصيصَ "جائزة جمال بن إسماعيل الوطنية للسلام"، سنويا لمن تثبُت جدارتُه لنيْلها، بنضاله من أجل السلام في الجزائر، والقضاء على الأحقاد والعنصرية. وإذا ما استُجيب لهذا المطلب، فإنه سيكون من بعض التكريم لروح الشاب الجزائري، جمال بن إسماعيل، الذي قضى في جريمةٍٍ بالغة الشناعة والحقارة، لمّا اختطفه قاتلوه ثم آذوه بالضرب، قبل أن يسحَلوه في الشارع مدمّى معذّبا، ثم أضرموا النار في بدنه. وكان في ظنّ هؤلاء، من أهل بلدةٍ في منطقة القبائل في الجزائر، أنه ممن أشعلوا الحرائق التي تعرّضت لها غاباتٌ وأشجارٌ حواليهم، فيما الشاب كان قد نظّم موكبا قدم من مدينته (مليانة) إلى المنطقة من أجل المساعدة في إطفاء الحرائق، وإغاثة المتضرّرين. وليس الجزائريون في بلدهم وحدَهم من روّعتهم فداحة الواقعة، فقد أثارت حنق ملايين في العالم. ومما ضاعف من التعاطف مع الضحية أنه ناشطٌ في أعمال التطوّع، ومغنّ، ورسّام، وموسيقي، و"يوتيوبر". ومما أبلغ به الروائي الجزائري، واسيني الأعرج، قرّاءه في "فيسبوك"، أن هذا الشاب الذي جاء إلى إخوانه في وطنه، من أجل حماية الأشجار من النار والموت، كان يعمل، أخيرا، على إعادة رسم لوحة فان جوخ "نوار اللوز"، وكان يقرأ رواية دوستويفسكي "المساكين".
تضجّ الحادثة المفزعة بحزمةٍ من المفارقات والأحاجي التي تحتاج شرحا مطوّلا لتفكيك مغاليقها، ذلك أن مقادير التوحش لدى المتورّطين في الجريمة (قالت السلطات إنها أوقفت 36 مشتبها به بينهم ثلاث نساء) تؤشّر إلى أنهم أرادوا في الذي قاموا به، وقد تعمّدوا تصوير فعلتهم وبثّ الصور (!)، ما هو أكثر من قتل الشاب البريء الذي "اشتبهوا" به (هل هذا صحيح؟)، من قبيل توجيه رسالة غضبٍ إلى السلطة. ولكن في الوسع أن يقال إنهم كانوا قادرين على هذا من دون حرق شابٍّ وديع مسالم. وإذا كانت الجريمة تنطوي على أبعادٍ عرقية، سيما وأن الفاعلين من الأمازيغ وجمال بن إسماعيل من العرب، يلزم هنا أن نتورّط جيدا في معرفة خرائط الشقاق بين المكونيْن في البلد الواحد الموحّد، إذا صحّ تماما أن ثمّة هذا الشقاق. وهنا، تؤكّد بالغَ أهميتها إطلالةُ والد الفنان الضحية على الجمهور العام، فقد أعطى فائض التسامح فيها درسا بليغا، وطوّقت دعوتُه فيها إلى وأد الفتنة ما كان محتمل الحدوث من توتراتٍ ومشاحناتٍ واحتكاكاتٍ تستثمر سردياتٍ تروج عن "تمييز" يحدُث في البلاد بين عربٍ وأمازيغ. ويُحسَب مقترح المثقفين الجزائريين الذين تنادوا إلى الطلب من الرئيس تبّون إطلاق "جائزة جمال بن إسماعيل الوطنية للسلام" إعطاءها في دورتها الأولى إلى والد المغدور، يُحسَب وجيها وفي محلّه، فالأثر الذي أحدثته لغة هذا الرجل وبيانه الوطني المسؤول، على الرغم من مُصابه الأليم، دلّ على أن ثمّة جمالا كثيرا في المواطن الجزائري، يمكن المراهنة عليه في استنهاض الشعب من أجل صلاح البلاد ونهوضها. وأظنّ هذا الأمر ينسحب على كل الشعوب العربية، إذا ما أتيح بين ظهرانيها المناخ السياسي الوطني الذي يحفّز على هذا، ويحفظ السرائر النقية في نفوس المواطنين العرب الذين لن يبخلوا على بلدانهم بما تحتاجُه منهم. وفي البال أن أعيان البلدة التي اقترف المجرمون ذبْحَهم المغدور اعتذروا عن الجريمة التي ندّدوا بها، وسمّوا جمال بن إسماعيل "ابنهم البارّ الشهيد"، وأكّدوا أن ما حدث لا يمثل قيم أهل مناطق القبائل ..
لا يليق أبدا أن يُنسى اسم جمال بن إسماعيل في الفضاء الثقافي والإنساني العربي العام. يستحقّ أن يُحمى من التناسي والنسيان. يستحقّ أن يحضر في مناهج التثقيف والتوعية نموذجا على روح العطاء والبذل، وعلى صدقية الانتساب الوطني. وتحضُر واقعة ذبحه كاشفةً عن أوجه شذوذٍ مرذولةٍ في مجتمعاتنا .. اسمُه جمال بن إسماعيل، هذا هو الأهم.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.