استغلال انتخابي لقضية إنسانية

استغلال انتخابي لقضية إنسانية

26 ديسمبر 2021

زيمور مع وفد من حزبه في زيارة نصب الإبادة الجماعية للأرمن في يريفان (12/12/2021/فرانس برس)

+ الخط -

في زيارة لي لمدينة فرنسية كبرى قبل سنوات، اصطحبني رئيس بلديتها "الاشتراكي" لزيارة بعض معالمها. وفي إحدى ساحاتها الكبرى، أشار إلى نصبٍ كبيرٍ قائلاً لي، مع ابتسامة إنسانية متناسقة مع الحدث، إنّه خصصها لتخليد ذكرى المذابح ضد الأرمن. أبديت إعجابي بهذه المبادرة النبيلة، خصوصاً أنّني آتٍ من مدينة حلب السورية التي استقبلت عشرات الألوف من الأرمن الهاربين من المذبحة، وصاروا من أهليها. بعد لحظات من إبداء اعجابي هذا، أضفت أنّ من المناسب أيضاً، بما أنّه صاحب نخوة تضامنية مع قضايا الشعوب المنتهكة حقوقها، أن يخصّص نُصباً لذكرى النكبة الفلسطينية وآخر لذكرى مذابح رواندا. صمت مستضيفي لحظات بدت أنّها طويلة، ثم التفت إليّ بابتسامة لم تكن بريئة البتة قائلاً: لدي خمسون ألف ناخب أرمني في هذا المدينة، اجلب لي ما يعادلهم من الفلسطينيين والروانديين لأرفع لهم نُصباً وأخصص لهم ساحات. لم يحتج الأمر مني طويلاً لأفهم البعد الانتخابي المصلحي في خطوات رئيس البلدية هذا الذي أصبح لاحقاً وزيراً سيادياً مرموقاً.
زار، في الأسبوع الماضي، مرشّحان للانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي ستجري في إبريل/ نيسان المقبل أرمينيا وعاصمتها يريفان. فهل يبحث اليميني المتطرّف إريك زيمور، واليمينية الجمهورية التي تغازل التطرّف، فاليري بيكريس، عن كسب رضى الفرنسيين الأرمن وأصواتهم، وهم الذين لا توجد إحصاءات رسمية لتقدير حجمهم الانتخابي على مستوى الجمهورية؟ حسب أحدث التقديرات، لا يتجاوز عددهم الإجمالي ستمائة ألف. وبالتالي، حجم الكتلة البشرية المؤهلة للإدلاء بأصواتها يُشكل نسبة من هذا الرقم. يُضاف إلى هذا أنّ الاندماج السياسي للفرنسيين الأرمن هو من أفضل النماذج التي يمكن أن يُقتدى بها، فمنهم اليميني ومنهم اليساري ومنهم المتطرّف يميناً أو يساراً. هم فرنسيون ومتحزّبون كلّ حسب أهوائه. تصويتهم على مستوى الجمهورية، وعلى عكس البلديات، لا يرتبط بموقف من يصوّتون له من تاريخهم القريب أو البعيد، فالمرشّحان بيكريس وزيمور سعيا إلى هدف آخر من محاولتهما استغلال الموقف الأرميني الصعب جيوسياسياً واقتصادياً، ما انعكس على شكل أزمات داخلية هدّدت بإزاحة رئيس الوزراء المنتخب بتهمة الخيانة، لقبوله الإذعان لتوقيع اتفاقية هدنةٍ فرضتها موسكو بين متحاربَين حليفين لها تبيعهما السلاح في الوقت ذاته، أرمينيا وأذربيجان.

لا يجرؤ من يدّعي الانتماء إلى الجمهورية الفرنسية العلمانية أن يتطرّق إلى الشق الديني إلّا في أحاديثه الخاصة

ما الهدف إذاً من هذه الزيارات، وما المُراد من لعب ورقة الألم الأرمني، واستغلال المأزق الاقتصادي والسياسي لهذا البلد العريق تاريخياً والصغير تأثيراً إقليمياً ودولياً؟ إنّها رسالة إلى ناخبين فرنسيين من المتدينين، إذ لا يجرؤ من يدّعي الانتماء إلى الجمهورية الفرنسية العلمانية أن يتطرّق إلى الشق الديني إلّا في أحاديثه الخاصة. فالدين، أيّ دين، لا يمكنه أن يُحدّد نظرياً خيارات المرشّحين. في المقابل، لهم كامل هامش المناورة والالتفاف على المسألة الدينية حينما يتبجحون بمساندة "مسيحيي الشرق"، ومنهم الأرمن، أمام ما يتعرّضون له من انتهاكات ومن اعتداءات ومن مخاطر تهجير. يغازل المرشّحان اليمينيان محافظي فرنسا، وهما غير عابئين البتة بمستضيفيهم من الأرمن. ولم تُخفَ هذه المناورة عن نخب الأرمن المثقفين والمسيسين الذين وصل بهم الأمر إلى التجمع في مطار يريفان، للاحتجاج على وصول اليميني المتطرّف كاره الأجانب والمسلمين، إريك زيمور، إلى البلاد.
اعترضت الصحافة الأرمينية أيضاً على الأسلوب الرخيص الذي استخدمه المرشّحان لاستغلال آلام الشعب الأرمني، سعياً لكسب أصوات محافظين مسيحيين متدينين في فرنسا. لم يجد هذا الاعتراض الصدى المطلوب في الإعلام الفرنسي إلّا حينما تصدّرت أقلام علماء اجتماع وسياسة مهتمين بالملف الأرميني الصحف تحليلاً وتوضيحاً. محاولة إظهار الصراع بين أذربيجان المدعومة تركياً وإسرائيلياً، وبطريقةٍ ملتويةٍ من روسيا غير الراضية عن نتائج انتخابات أرمينيا الديمقراطية، وأرمينيا المدعومة نظرياً من روسيا، إسلامياً مسيحياً فاشلة بامتياز. وتقود متابعة هذا الصراع وتحليل عناصره إلى حصر أبعاده في جوانبه السياسية والإقليمية المرتبطة أساساً بتشكيل ستاليني مشوّه للاتحاد السوفييتي على حساب طبيعة مجتمعات آسيا الوسطى، إضافة إلى ارتباطها بالطريقة الفوضوية التي تمّ من خلالها تفكيك هذه الإمبراطورية السوفييتية.

زيارات أرمينيا ظاهرة جديدة لا تتعلق بإرثٍ علماني فرنسي، وتحاول الاستهزاء بمأساةٍ حقيقيةٍ عاشها الأرمن لكسب أصوات متطرّفي المجتمع المحافظ الفرنسي

في سابق الحملات الانتخابية التي عرفتها فرنسا للرئاسيات، توجّه المرشّحون إلى خارج الأراضي الفرنسية بزياراتٍ لها أبعاد تاريخية مرتبطة بعلاقات فرنسا مع أفريقيا وشرق آسيا مثلاً. كذلك زار المرشّحون الأراضي الفرنسية في البحار البعيدة، كجزر المارتينيك أو كاليدونيا الجديدة، سعياً لإبراز أهمية كلّ الأراضي الفرنسية في برنامجهم التنموي. زيارات أرمينيا ظاهرة جديدة لا تتعلق بإرثٍ علماني فرنسي، وتحاول الاستهزاء بمأساةٍ حقيقيةٍ عاشها الأرمن لكسب أصوات متطرّفي المجتمع المحافظ الفرنسي. يسعى اليمينيان المتقاربان فكرياً لتوجيه رسالةٍ لا علمانية إلى ناخبين يشعرون بالحنين إلى الدور الكاثوليكي المتخيل لفرنسا. وهما لا يجرؤان، بنسب متفاوتة، على التصريح بهدفهما، فيقومان بالالتفاف عبر استغلال القضية الأرمنية.
فطن الواعون من الأرمن لهذه الخدعة السياسوية السخيفة، فهل سيصعُب على الفرنسيين التنبّه إلى هذا الأسلوب الذي يُهدد الديمقراطية كما علمانية الدولة؟