استعراض حفتر العسكري والصمت الحكومي

استعراض حفتر العسكري والصمت الحكومي

03 يونيو 2021
+ الخط -

جرت العادة أن تنظم بعض الدول احتفالات واستعراضات عسكرية، في مناسبات وطنية أو إحياء لذكرى انتصارات في حروبٍ خاضتها جيوش هذه الدول، حيث يقام عرض عسكري تستعرض فيه قدرات الدولة العسكرية والتنظيمية، وإمكاناتها التدريبية في المجال العسكري، وكثيرا ما يتم فيها الإعلان عن انضمام أسلحة استراتيجية أو تطوير لأسلحة قديمة، أو تخريج دفعات من الضباط أو الجنود. وكثيرا ما تهدف هذه الدول، من هذه الاستعراضات، إلى إرسال رسائل معينة. إما إلى الخارج، لتؤكد من خلالها قدراتها على درء الأخطاء، وإثبات وزنها العسكري، بما يعزّز وضعها الإقليمي أو الدولي، أو على الأقل لضمان عدم تجاهلها في أي تسوية أو مفاوضات قد تحدث في المنطقة، أو أن تكون الرسالة موجهة إلى الداخل، كما يحدث في الأنظمة الاستبدادية الشمولية، حيث تعبر هذه الأنظمة، من خلال هذه الاستعراضات لمواطنيها بالدرجة الأولى، بأنها تمتلك القوة القادرة بها على بسط سيطرتها على كل مفاصل الحياة. وبالتالي، بث الخوف والرعب في كل من تسوّل له نفسه شق عصا الطاعة، أو الصدع بالمعارضة أو التفكير فيها.

ومهما تكن الرسالة المُراد إيصالها، وبغض النظر عن هدفها، تظل الاستعراضات العسكرية أمراً في مجمله تقرّره الحكومة، وقد تترك بعض تفاصيله البسيطة لقيادة الجيش التي تظل ملزمةً بعرض كل التفاصيل على الحكومة، لاعتمادها في صيغتها النهائية، والتي يكون لها وحدها صلاحية توجيه الدعوات، الداخلية والخارجية، وبما يخدم علاقاتها السياسية، ومواقفها الإقليمية والدولية، وهي إجراءاتٌ بديهية في جميع الدول، ومسلمة تنتهجها كل الأنظمة، وتتبعها كل الحكومات.

في ليبيا، يبدو الوضع مختلفا تماماً، ويجري على غير هذه المسلمات، وخلافاً لهذا المنطق، ففي سابقةٍ ربما تكون الأولى من نوعها، يقوم ضابط جيش متقاعد بالإعداد، والإشراف، والقيام باستعراض عسكري، وصفه المتحدّث باسمه بأنه "أكبر استعراض في تاريخ ليبيا خلال السنوات الأخيرة"، استعراض لم يكن لمسؤولي الدولة علم به، إلى أن وُجّهت لهم رسائل دعوة للحضور، شملت مسؤولين عديدين، وفي مقدمتهم رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، والذي يشغل منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، والذي يشغل منصب وزير الدفاع، من دون أن يشير في دعواته إلى هذه المناصب المرتبطة بالجانب العسكري.

وقد واجهت هذه الخطوة انتقاداتٍ كثيرة، على المستويين، الشعبي والرسمي، باعتبارها عملية استفزازية تأتي في وقت حساس، يتطلع فيه الليبيون إلى طي صفحة الماضي، بما فيها من قتل ودمار وانقسام وتهجير وتشظٍ، وتفاقم تمزق النسيج الاجتماعي، تأتي وسط خضم المباحثات والجلسات المنعقدة بين اللجان السياسية والعسكرية، وخصوصا (5 + 5)، والتي نجحت في وقف إطلاق النار بين الأطراف المتصارعة، وحققت بعض التفاهمات المهمة، خصوصا أن اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، اختار من يمثله في هذه اللجنة.

دان المجلس الأعلى للدولة المجلس الرئاسي، بصفته القائد الأعلى للجيش، إلى ضرورة وضع حد للخروق والسلوكيات العدوانية التي يقوم بها حفتر

على المستوى الرسمي، دان المجلس الأعلى للدولة هذا الاستعراض، واعتبره عملاً استفزازياً، ودعا المجلس الرئاسي، بصفته القائد الأعلى للجيش، إلى ضرورة وضع حد لمثل هذه الخروق والسلوكيات العدوانية التي يقوم بها حفتر، وأن يقوم بدوره في إرساء وقف إطلاق النار والشروع في توحيد المؤسسة العسكرية، والنأي بها عن العملية السياسية (وفق نص البيان). وبدوره، صرح عبدالله اللافي، نائب رئيس المجلس الرئاسي، قائلاً إن المجلس شدّد، مرارا وتكرارا، على تجنب القيام بأي تصرفات أحادية، ذات طابع عسكري، من أي طرف، ومنها المناورات والاستعدادات العسكرية التي قد تؤدّي إلى نشوب الحرب مجدّدا.

وفي هذا السياق، يبدو أن رئيسي الحكومة الوطنية والمجلس الرئاسي لا يزالان حريصين على بقاء شعرة معاوية مع حفتر، متفاديين الوصول إلى نقطة الاختلاف، لضمان عدم الدخول مجدّدا في صراعاتٍ لا غالب فيها ولا مغلوب، باعتبار أن النصر الظاهري الذي سيحققه أي طرف، أشبه، في الحقيقة، بالفشل الساحق، إذا ما قيست توابعه بالخسائر التي ستطاول الجميع، وسيدفع ثمنه الأبرياء، كما حدث في كل المواجهات السابقة. ولهذا ومنعا للإحراج، وتفاديا للانتقادات التي ستطاولهما في حالة ما قبل الدعوة، أو اعتذرا عن قبولها، فقد اختارا الموعد نفسه المحدّد لهذا الاستعراض، ليقوما بزيارات عمل إلى كل من تونس والجزائر، بينما يبدو أن رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، كان أكثر إصراراً على المواجهة، فلم يسافر إلى الخارج، ولم يلبِ الدعوة، فقد أصبح على يقين بأن الوقت تغير، والظروف ليست كما كانت، وأن اصطفافه، إلى جانب حفتر، قد يجعل منه شخصيةً غير مقبولة، خصوصا أنه قد حاول تلميع صورته لدى الجميع في الفترة الأخيرة، ويحاول أن يكون طرفا مؤثّرا في اختيار المناصب السيادية، وأن ذلك لن يتأتّى له، إذا ما اختار الدوران في فلك حفتر، والذي جرّبه فيما مضى، وكانت نتائجه سلبية، وصلت إلى الدرجة التي تعالت فيها الأصوات بضرورة استبداله، باعتبار رئاسة مجلس النواب من نصيب إقليم الجنوب، حسب الاتفاق السياسي.

أراد حفتر من هذا الاستعراض أن يقول، في رسالة واضحة إلى الداخل والخارج، إنه لا يزال، على الرغم من خسارته، رقما مهما في أي تسوية

على المستوى الشعبي، تفاوتت وجهات النظر، وإن أجمعت، في معظمها، على اعتبار هذه الاستعراضات انتهاكاً للجهود التي بُذلت من أجل وقف إطلاق النار، ورأت فيها تقويضاً لفرص نجاح الحكومة الوطنية في توحيد المؤسسات، بما فيها المؤسسة العسكرية، والوصول إلى مناخٍ مناسب، يؤمل منه أن يقود إلى إجراء الانتخابات في موعدها المحدد، نهاية العام الحالي، انتخاباتٍ قد تنهي معاناةً عاشها الليبيون سنوات، أنتجت كوابيس لا تزال تطاردهم، متمثلة في قذائف كانت تسقط على رؤوسهم، لا تميز بين المدني والمسلح، وصور لبيوتهم التي إما أن تكون هُدّمت، أو سُرقت، أو حالت بينهم وبينها ألغام زُرعت، ناهيك عن الضحايا الأبرياء الذين سقطوا في حربٍ لم تكن خيارهم، ونزاعات دفعوا ثمنها، من دون ذنب، سوى أن قدرهم جعلهم يقطنون أحياء أصبحت مساحة قتال للأطراف المتصارعة، يرى فيها كل طرف منطقة استراتيجية تؤهله للسيطرة على وسط العاصمة. وتنفس الليبيون الصعداء، وعقد معظمهم آمالا كبيرة، عقب اتفاق الفرقاء على سلطة انتقالية موحّدة، رأوا فيها بداية النهاية لكل الأزمات، وظنّوا أن بوادر الاستقرار قد لاحت، وأن الجميع بات مقتنعا بأن الحرب لن تؤدّي إلى الحل، وأن الجلوس والتفاوض والتنازل هو الطريق الصحيح، بل الوحيد، لإنهاء الاقتتال بين الإخوة في الوطن الواحد، وأن الصراع على السلطة لا يكون إلا من خلال صناديق الاقتراع، وعبر ديمقراطية دفع في اتجاهها ليبيون كثيرون، واستشهد منهم من استشهد لتعزيزها، وأصبح كثيرون منهم لا يريدون رؤية الأسلحة والقذائف والدبابات والطائرات من جديد، لأنها تذكّرهم بمآسي الحروب والقتل والدمار.

يبدو أن رئيسي الحكومة الوطنية والمجلس الرئاسي لا يزالان حريصين على بقاء شعرة معاوية مع حفتر

وعلى أية حال، من المنطقي أن يثير الاستعراض العسكري الذي أقيم في قاعدة بنينة في بنغازي عدة أسئلة في الوسط الشعبي، خصوصا في هذه الظروف التي يظهر لليبيين فيها أمل في الخروج من الهوّة التي انحدر إليها بلدهم، ولعل أول تلك الأسئلة يتمثل في كيفية الحصول على كل هذه الأسلحة، وحجم مقابلها المادي، خصوصا أن هذا الاستعراض يأتي بعد سنة وأربعة أشهر من القتال على مشارف طرابلس، فقد فيه الجيش كثيرا من قدراته العسكرية، ناهيك عن قرار حظر توريد الأسلحة الذي أقرّته الأمم المتحدة. أما ردود الفعل الإقليمية والدولية فقد تفاوتت حسب تصنيف كل منها حفتر كشخص، ولموقف كل منها من الأزمة الليبية في إطارها العام. وفي تقديري أن حفتر أراد من هذا الاستعراض أن يقول، في رسالة واضحة إلى الداخل والخارج، إنه لا يزال، على الرغم من خسارته، رقما مهما في أي تسوية. ولا أعتقد أنه بذلك يجنح إلى التلويح بحربٍ جديدة ضد طرابلس، فالمجتمع الدولي بمن فيهم داعموه لن يسمحوا له بذلك، إضافة إلى تجربته السابقة التي لم تكلل بالنجاح، بل كانت سببا في خسائر مادية وبشرية كثيرة.

أما السؤال الذي لا يقل أهمية: كيف سيكون رد المجلس الرئاسي، باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، على هذه الخطوة؟ خصوصا أنه سبق أن قرّر منع كل شاغلي المناصب العسكرية من السفر خارج البلاد، من دون إذن، أو الإدلاء بالتصريحات لوسائل الإعلام، فما بالك بالتحرك بالآليات العسكرية والطيران وغيره.

ستظل هذه التساؤلات مطروحة من دون أجوبة، وسيظل المواطن الليبي ينتظر انفراجا وسلاما طال أمد تحققه.