اختفاء العالم العربي

اختفاء العالم العربي

26 فبراير 2022
+ الخط -

إلى سنوات خلت، تمسّك قوميون عرب بتسمية الدول العربية، في المشرق والمغرب، وطناً عربياً، يضم كتلة بشرية قومية (أمة واحدة) تجمعها لغة مشتركة وتراث واحد ومصالح عليا واحدة، وأخذوا على غيرهم تداولهم تسمية "العالم العربي"، باعتبارها تسمية شكلية وشبه محايدة وذات مدلول جغرافي، وأنها تحيل إلى الاختلافات والفوارق بأكثر مما تدل على ما هو مشترك وجامع.

الآن، وبعد تحولاتٍ شهدتها العقود الأخيرة، بالكاد يمكن إطلاق تعبير العالم العربي على مجموع الدول التي تنضوي في إطار جامعة الدول العربية، إذ تباعدت وتضاربت السياسات والمصالح والأولويات، ولم تعد هناك مرجعية يمكن الاحتكام إليها أو بوصلة يجري الاهتداء بها، وذلك مع تعاظم شأن الدولة "القُطرية"، وتضخّم وعيها بالمصالح والهواجس الأمنية، حتى غدت كل دولة مرجعية تامّة لذاتها الوطنية، فلا مرجعية لها خارج حدودها.

وفي الوسع رصد محطّاتٍ شهدت تباعا تصدّع المجموعة العربية، من أبرزها زيارة الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، إلى الدولة العبرية يوم 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 1977، وإلقائه خطابا أمام البرلمان الإسرائيلي (الكنيست)، فقد كسر الرجل حاجزا نفسيا موضوعيا بين العرب وأبرز أعدائهم، وقبل أن تزول أسباب العداء. وعلى الرغم من أن السادات شدّد على أهمية السلام الشامل الذي يعيد أراضي المصريين والفلسطينيين والسوريين والأردنيين وحقوقهم، إلا أن الطرف الآخر، الإسرائيلي، قد أدرك أن الرئيس المصري إنما يسعى إلى تحقيق مصلحة بلده ونظامه السياسي، وقد اختار حلا منفردا، وإن لمن الأهمية بمكان إسرائيلياً توسيع الثغرة الكبيرة في جدار القطيعة والمقاطعة. وقد تبعت ذلك مفاوضاتٌ أدّت إلى اتفاقية كامب ديفيد التي أعادت سيناء إلى مصر مع تقييد وجود الجيش المصري على أراضيها، ومع اعتبار حرب أكتوبر 1973 آخر الحروب بين مصر وإسرائيل. وقد نشأت، إثر ذلك، مقاطعة عربية لمصر، وانتقل مؤقتاً مقر الجامعة إلى تونس، ثم استؤنفت العلاقات المصرية، وعادت الجامعة إلى مقرها الدائم في القاهرة، فيما نجحت اتفاقية كامب ديفيد في فتح الأبواب أمام الحلول المنفردة، وفي كسر حاجز القطيعة مع الدولة العبرية التي قامت على أرض فلسطين.

تعاظم شأن الدولة "القُطرية"، وتضخّم وعيها بالمصالح والهواجس الأمنية

المحطة التالية، الحرب العراقية الإيرانية في 22 سبتمبر/ أيلول 1980، بعد نحو عام ونصف العام من سقوط نظام الشاه في طهران. وهي حربٌ دعمتها غالبية الدول العربية آنذاك، على الرغم من أنها فوجئت بوقوعها، غير أن هذه الحرب الطويلة خلخلت مفاهيم راسخة وقناعات سائدة، أن حربا إذا نشبت فستقع بين العرب وعدوهم التاريخي، إسرائيل، فإذا بهذه الحرب تقع مع جار إقليمي، واستنزفت موارد وطاقات هائلة. وفي الوقت نفسه، هذا الجار، بطبيعته المذهبية ونزعته التوسعية، وتحت شعار صريح بتصدير الثورة، يضع العالم العربي ضمن مجاله الحيوي، وهو ما برهنت عليه التطورات اللاحقة. وبهذا، فقد تعدّدت مراكز العداء الخارجية في أنظار جماهير عريضة، كما لدى النظم السياسية ووقع تبدل في الأولويات، إذ نشأ، على سبيل المثال، مجلس التعاون لدول الخليج العربية، عام 1981، استجابة للتحدّي الإيراني، وبات الخطر الإسرائيلي بهذا مجرّد مركز من مراكز الخطر.

وكانت المحطة الثالثة مع الغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس/ آب 1990، وبعد زهاء عامين على انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، جاء الاجتياح بمنزلة زلزال جيوسياسي، امتدّت تداعياته إلى المفاهيم الراسخة، فها هو بلد عربي يتعرّض لغزو من بلد عربي جار، وبعد الدعم الذي قدمته الكويت للنظام في بغداد في حربه مع النظام الإيراني. ومغزى ذلك أن مركز الخطر كان كامنا هذه المرّة لدى طرف شقيق، وأن مراكز العداء لا تكمن خارج العالم العربي فحسب، بل في داخله وبين ثناياه أيضا. وكان من نتيجة ذلك تبدّل الأولويات وتغير الأجندات بين دولة عربية وأخرى، ما أسهم في تصدّع المنظومة العربية وتراجع أولوية التحدّي الإسرائيلي.

وقد تتابعت التطورات بصورة متسارعة بعدئذ، فقد وقعت حرب تحرير الكويت بقيادة أجنبية (أميركية)، وبمشاركة دول عربية، وانتهت في 26 فبراير/ شباط 1991 بهزيمة القوات العراقية. وهكذا، فقد شاءت الظروف المتقلبة وخطيئة الاجتياح التجند تحت قيادة أجنبية لمعاقبة طرف عربي معتد، واستعادة شعب عربي وطنه، فيما شهد عقد التسعينيات محطة بارزة أخرى، هي الرابعة، في لجوء الطرف الفلسطيني إلى توقيع اتفاقية إعلان المبادئ مع إسرائيل (اتفاق أوسلو) في سبتمبر/ أيلول 1993، وهو أول اتفاق فلسطيني إسرائيلي يجري بالمفاوضات المباشرة، وبينما رأته منظمة التحرير الفلسطينية مؤقتا، وأنه لا يتضمن حلا نهائيا، إلا أن الطرف الإسرائيلي الأكثر نفوذا داخل المؤسسة الحاكمة قطع على الجانب الفلسطيني المضي في الاتفاق، وذلك مع اغتيال متطرّف إسرائيلي إسحق رابين في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1995. ومذّاك، صعد اليمين المتطرّف الذي شرع في التنصّل من الاتفاق بالتدريج، إنما بصورة منهجية ثابتة. وكان رابين قد وقع أيضا معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية المعروفة باتفاقية وادي عربة في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1994. وقد صمدت هذه المعاهدة، كما صمدت سابقتها المعاهدة المصرية مع إسرائيل. وبهذا، انفتحت الأبواب على مصاريعها للتسويات مع الدولة العبرية، ولإقامة علاقات من تحت الطاولة معها وبدون تمثيل دبلوماسي.

يتفكك العالم العربي بوصفه كتلة إقليمية، جنباً إلى جنب مع صراعات إثنية وطائفية داخل دول عربية عدة

وثمّة محطة خامسة، لا تتعلق بحدثٍ شهده العالم العربي، ولا وقع على أراضيه أو في أجوائه، إلا أن تأثيراته كانت بالغة على المنطقة، وهو وقوع تفجيرات 11 سبتمبر (2001) في الولايات المتحدة، وحيث وجهت أصابع الاتهام إلى أشخاص عرب (أكثريتهم سعوديون) وجرت محاكمتهم وإدانتهم. وقد جعل هذا الحدث من مكافحة الإرهاب أولوية تتصدّر الأولويات في العالم. ونشأ تنسيق استخباري وثيق بين الدول العربية والولايات المتحدة، وخصوصا مع استشعار دول عربية عدة أن الإرهاب يمثل تحدّياً داخليا لكل منها، ولم تكن تل أبيب بعيدة عن وتيرة التنسيق الأمني المتشعب. وقد استشعرت كتلٌ شعبيةُ عريضةٌ في العالم العربي أن حملة مكافحة الإرهاب قد خرجت، في بعض الحالات عن مضمونها، وجرى استغلالها لتشديد القبضة الأمنية على المعارضين وأصحاب الآراء النقدية، ما أسفر عن محطة سادسة تمثلت في انفجار موجة الربيع العربي، ذات المنحى السلمي والمدني، في عديد من دول المشرق والمغرب، وبغير أي تنسيق، وذلك بهدف تغيير أنظمة الاستبداد والفساد. وعلى الرغم من أن الحدث وحّد المطالب الشعبية هنا وهناك، إلا أن الأولويات الوطنية المحلية هي التي كانت طاغية.

وقد أدّت يقظة الكتلة الشعبية في غير بلد عربي إلى قيام ثورة مضادة في اتجاه معاكس، كما أدّت الاتفاقيات العربية مع الدولة العبرية إلى المحطة السابعة، "الاتفاقيات الإبراهيمية" التي أنكرت وجود أسباب لعداء عربي إسرائيلي، وفتحت الأبواب لتعاون أطراف عربية مع تل أبيب في شتى المجالات، بما في ذلك الجانب الأمني والتعاون العسكري. ولم يكن لدى جامعة الدول العربية ما تقوله إزاء هذا التطور سوى صمت الموت.

والآن، إننا في غمار مرحلة تشهد تفكك العالم العربي بوصفه كتلة إقليمية، جنبا إلى جنب مع صراعات إثنية وطائفية داخل دول عربية عدة، فيما يؤذن العالم العربي، كما عرفته وساهمت في بنائه أجيال تلو أجيال طيلة قرن على الأقل، على الاختفاء.