احتلال غزّة وإعادة رسم الخرائط
يوحي الحديث عن قرار إسرائيل احتلال قطاع غزّة بأن الجيش الإسرائيلي يتموضع خارج حدود القطاع، وينوي الآن زجّ قواته لاجتياحه واحتلاله. بينما واقع الحال يقول إن إسرائيل باتت تحتل ثلاثة أرباع القطاع احتلالاً مباشراً، وتسيطر بالنار عليه كاملاً. فما الجديد في القرار الإسرائيلي الذي يجعله بالغ الخطورة، واستدعى عقد قمّة عربية واجتماع لمجلس الأمن؟
عندما احتلّت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزّة عام 1967، لم تحصل عملية تهجير على غرار ما حصل في النكبة الأولى عام 1948. وبعد "7 أكتوبر" (2023)، ورغم حرب الإبادة والقتل والتدمير التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي، لم يغادر القطاع سكّانه لأسباب عديدة منها قرار الدولة المصرية إغلاق حدودها أمام الغزّيين. أمّا الآن، فتبدو إسرائيل بقرارها احتلال القطاع عازمةً على تكرار سيناريو 1948، لكن بصيغة معدّلة. فإذا كان من الصعوبة بمكان تهجير الغزّيين خارج القطاع بسبب الموقف المصري، فإنه بالإمكان، كما يفكّر قادة إسرائيل، تهجيرهم باتجاه جنوب القطاع، وحصرهم هناك في منطقة ضيّقة. وبذلك تُفرَّغ مساحات كبيرة من القطاع من سكّانها، والبدء بتنفيذ المشاريع الاستيطانية في ظلّ سيطرة القوات الإسرائيلية. ومن غير المُستبعَد أن يكافئ نتنياهو الولايات المتحدة على مواقفها الداعمة لإسرائيل بمنحها عروضاً سخيةً للاستثمار في القطاع والاستجابة لرغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتحويل غزّة "ريفيرا الشرق الأوسط".
زيادة مساحة الدولة الصهيونية، والتوسّع في الاستيطان، ليسا متخيّلين، بل ينتميان إلى صلب عقيدة اليمين الصهيوني (المتطرّف) الذي يتربّع على سُدّة الحكم اليوم. وكان مجرم الحرب نتنياهو قد عبّر عن ذلك بوضوح عندما قال: "إذا لم يكن هنالك حقّ لليهود بالاستيطان في الخليل وفي بيت إيل، فليس لهم الحقّ أيضاً في البقاء في حيفا ويافا". بالفعل، تؤكّد الإحصاءات أنه منذ اتفاقات أوسلو (1993) تضاعف الاستيطان في الضفة الغربية أربع مرّات. ففي عام 1992 كان عدد المستوطنات 172 مستوطنة يقطنها 248 ألف مستوطن. وقد وصلت إلى 444 مستوطنة وبؤرة استيطانية، يقطنها 950 ألف مستوطن في عام 2023. ومنذ "7 أكتوبر" وحتى الآن، دأبت إسرائيل في تغيير الوضع الديمغرافي في الضفة الغربية، من خلال استهداف المخيّمات في جنين وطولكرم وغيرهما، وهدم البيوت وتجريف الأراضي وتوسيع الاستيطان. إذا كان الرئيس ترامب قد قال مازحاً (بسماجة) إن إسرائيل تبدو صغيرةً في الخريطة، فإن قادة الدولة الصهيونية يرون في الظروف الراهنة فرصةً ذهبيةً لتحقيق هدف توسيع مساحة إسرائيل. فالضربات القاسية التي تلقّاها كلّ من "حماس" وحزب الله وإيران، وسقوط نظام الأسد، وتدمير القدرات العسكرية السورية... ذلك كلّه يفتح الطريق بلا رادع أمام إسرائيل لضمّ أراضٍ جديدةٍ من قطاع غزّة والضفة وجنوب لبنان وسورية. أمّا في ما يخص حلّ الدولتَين، فإن سيطرة إسرائيل على مساحات واسعة في الضفة وغزّة، وإسقاط سلطة "حماس"، وتقويض سلطة رام الله، سيرمي بهذا الحلّ (أو ما تبقّى منه) في مهبّ الريح، ويختزله في إدارات محلّية في هذه المنطقة أو تلك. الأمر الذي أشار إليه بوضوح تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي كاتس (في 30/5/2025) في معرض ردّه على قرار فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حين قال: "إقامة 21 مستوطنة جديدة في يهودا والسامرة رسالة إلى ماكرون وأصدقائه بأنهم سيعترفون بدولة فلسطينية على الورق".
زيادة مساحة الدولة الصهيونية، والتوسّع الاستيطاني، ليسا متخيّلين، بل ينتميان إلى صلب عقيدة اليمين الصهيوني
من نافل القول إن نجاح إسرائيل في تنفيذ مخطّطها باحتلال الجزء الأكبر من قطاع غزّة، وحصرها حوالي مليونَي غزّي في بقعة قد لا تتجاوز مساحتها 50 كيلومتراً مربّعاً (أي ما يعادل متراً مربّعاً لكلّ 25 غزّياً) سيفاقم من الأوضاع المأساوية للغزّيين، ويزيد الضغوط على "حماس"، ويدفع باتجاه إنهاء الحرب بالشروط الإسرائيلية. وإذ يتحقّق ذلك، سيخرج نتنياهو لإلقاء خطاب "النصر" الذي سيُعلِن فيه نجاح إسرائيل في تحقيق أهدافها من الحرب، وهي القضاء على سلطة "حماس"، والسيطرة على غزّة، وإطلاق سراح الرهائن. بطبيعة الحال، سيُقابَل انتهاء العدوان على غزّة بترحيب معظم حكومات العالم، التي تتعرّض لضغوط كبيرة من الرأي العام بسبب الجرائم الإسرائيلية، وبترحيب الأنظمة العربية التي سترتاح من عبء شعورها بالضعف والعجز الذي لازمها طوال العدوان الإسرائيلي على غزّة، بل إن بعضها، تحديداً النظام المصري، سيفاخر بأنه حال دون تهجير الفلسطينيين. بعد ذلك، وبعد أن ظهرت إسرائيل قوةً عسكريةً ضاربةً، ودولةً ذات نفوذ وتأثير في أكثر من مكان في المنطقة، في سورية ولبنان على سبيل المثال، وإذ ينطلق قطار التطبيع مع إسرائيل بقوة الدفع الأميركية، ربّما يصبح واقعاً ما صرّح به نتنياهو مراراً بأن حروب إسرائيل أخيراً ستغيّر خريطة الشرق الأوسط. أدّت حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، وسياسات التجويع، واغتيال الكوادر الطبّية والصحافية... إلخ، إلى إحداث تغيرات كبيرة في الرأي العام العالمي ضدّ إسرائيل، ولصالح الفلسطينيين وقضيتهم. وقد طاولت هذه التغيّرات مواقف الحكومات بما فيها تلك المعروفة بدعمها إسرائيل، إذ عبّر العديد منها عن نيّته الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وعلى رغم الإجماع الدولي على حلّ الدولتَين ورفض القرار الإسرائيلي باحتلال قطاع غزّة، يجعل وقوف شرطي العالم، الولايات المتحدة، إلى جانب إسرائيل، من إمكانية ترجمة ذلك الاجماع واقعاً ملموساً أمراً مشكوكاً فيه.
لقد قدّم المجرم والإرهابي الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، للفلسطينيين ثلاثة خيارات، إمّا الرحيل وإما البقاء مواطنين خاضعين لا حقوق لهم وإما القتل في حال قاوموا إسرائيل. فما هو خيار الفلسطينيين؟... على رغم أوضاعهم الكارثية وظروفهم الصعبة والمعقّدة، والنكبة الجديدة التي حلّت بهم، ليس (وبعيداً من الشعارات) أمامهم سوى الاستمرار في خوض معركة وجودهم. فقدر سيزيف الفلسطيني أن يحمل صخرته (قضيته) فوق ظهره، ويمضي في مجاهل عصر يليق به أن يوصف بعصر الجنون.