احتكار السلاح وسيلة أم غاية؟

03 مارس 2025

(نجا المهداوي)

+ الخط -

أحد المبادئ الأساسية التي تُعزّز سيادة الدول، احتكار السلاح بيدها، لأنه يعزّز قدرتها على فرض القانون وحماية السلم الأهلي. وهو معيار لا غنى عنه لتحقيق الاستقرارين، السياسي والاجتماعي، وهو ما يمكن أن نستخلصه من التجارب التاريخية والدروس المستفادة من نزاعات مختلفة امتدّت عشرات السنين في أنحاء ودول كثيرة في العصر الحديث، ومنها كولومبيا على سبيل المثال. فبعد 50 عاماً من النزاع المسلّح، الذي أودى بحياة الآلاف، وقّعت الحكومة الكولومبية في عام 2016 اتفاق سلام تاريخي مع حركة التمرّد المسلحة، تضمّن تسليم الأسلحة تحت إشراف الأمم المتحدة، وتحويل القوات المسلّحة الثورية الكولومبية (FARC) حزباً سياسياً شرعياً، إلا أن الأقرب إلينا، بحكم تأثيرها المباشر في ما يجري في سورية، تجربة حزب العمّال الكردستاني في تركيا.
لقد شكّلت رسالة زعيم الحزب، عبد الله أوجلان، إلى الأكراد، بعد 30 سنة من الاعتقال، ودعا فيها إلى إلقاء السلاح واعتماد الطرائق السياسية، نقطة تحوّل مهمّة، عبّرت عنها استجابة الحزب لهذه الدعوة، رغم تقييدها بشروط لا تبدو تعجيزية، بل واقعية وممكنة، وقد تكون الحكومة التركية قد تجاوزتها قبل السماح لتداول الرسالة علناً، وبخاصّة أن الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان على أبواب مباحثات شاملة مع الجانب الأميركي بشأن المنطقة عموماً. ويوضح وضع السلاح أن للتفاوض بين الأطراف المحلية بشأن الحقوق والمطالب المشروعة وسائل أكثر فاعلية في زمن التحالفات الدولية، ولا يتطلّب بالضرورة اللجوء إلى العنف. الوصول إلى المكاسب الوطنية والسلم الأهلي غالباً ما يتطلّب التضحية بالعنجهيّة السياسية لحساب الحكمة والعقلانية، ولعلّ هذا ما يمكن أن يكون الحامل الأساس لمضمون التفاوض الذي أنتج تلك الرسالة السلمية، التي تؤسّس لمسار جديد لم يختبره الطرفان سابقاً. وتُظهر هذه التجربة أن الضمان الحقيقي لحقوق المواطنة المتساوية، على المستويين الفردي والجمعي، يجب أن يكون عبر دستور عادل يُحافظ على حقوق الجميع، مع تأكيد المشاركة الشعبية في السلطة بوصفها ضمانة حقيقية للتمثيل العادل لمختلف المكوّنات، رغم أن الدستور التركي الحالي يُعتبَر نموذجاً ديمقراطياً متقدّماً في المنطقة، إلا أن ذلك لم يمنع من الحاجة إلى طلب الضمانات القانونية والتعديلات الدستورية لتحقيق السلم الأهلي الدائم وحماية الأمن القومي.

بقاء السلاح خارج سيطرة الدولة يُعزِّز المخاوف من التقسيم في سورية

وبإسقاط هذه الدروس على الوضع السوري، نجد أن تحرير قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من تبعيّتها لحزب العمّال الكردستاني خطوة استراتيجية مهمة، فقد كان الارتباط بين قضيتي الأكراد السوريين والأكراد الأتراك، بالإضافة إلى التداخل في العمل المسلح، يزيد من تعقيد المشهد، ويُعرّض "قسد" لاتهامات تركية بالإرهاب. وبهذا الفصل العملياتي، يمكن القول إن من شأن الدخول في تفاهماتٍ جادّة مع الحكومة السورية أن يُحدِث مساراً مختصراً لتجنّب العقود الطويلة من الصراع غير المجدي، والكارثي على الأطراف كلّها، كما حدث في الحالة التركية، وصولاً إلى مشهد إعلان الحزب القبول بإرادة رئيسه، والذهاب نحو التفاوض السلمي على حقوق مواطنة متساوية، وطيّ ملف الصراع المسلّح.
يمنح هذا الفصل بين القضيتين "قسد" مساحةً أوسع في المفاوضات مع الحكومة السورية، ويُخفّف عنها عبء الدفاع عن قضايا خارج إمكاناتها، ما يُتيح لها التركيز في علاقتها مع محيطها السوري. وعليه، يُصبح من الضروري أن تتحوّل "قسد" حاملاً اجتماعياً غير مسلّح للأكراد في سورية، فتُقدّم نموذجاً للشراكة الوطنية التي تضمن الحقوق والواجبات بالتساوي. ويفترض هذا خطوات متبادلة تقدّمها حكومة الرئيس أحمد الشرع للأكراد السوريين، وفق مبدأ المواطنة، والفرص المتساوية مع مكوّنات المجتمع السوري، إضافة إلى إعلان واضح أن الجيش السوري مؤسّسٌ وفقاً لمواد دستورية تنظّم عمله ودوره، فالولاء للوطن، وليس لأيّ جهة سياسية أو حزبية.
في هذا السياق، يُصبح النقاش بشأن اللامركزية الإدارية في سورية جزءاً من تأكيد وحدة البلاد، وليس مؤشّراً على تقسيمها. ما يُعزِّز المخاوف من التقسيم، بقاء السلاح خارج سيطرة الدولة، إذ يتحوّل كلّ حديث عن اللامركزية شبهةَ تقسيم محتمل. لكن في حال إزالة السلاح وتحرير الأكراد (والدروز والعلويين) من أعبائه، ستُصبح المفاوضات أسهل وأكثر شمولاً مع مكوّنات الشعب السوري كلّها، لأنها ستنطلق من إطار وطني عام يشمل جميع المناطق السورية.

يجب أن يكون الهدف دولة المؤسّسات التي تُحقّق حقوق المواطنة الكاملة والمشاركة الشعبية في السلطة

وهكذا، عندما تكون الدولة الجهة الوحيدة التي تحتكر السلاح، يُصبح الحوار في المطالب الشعبية والدستورية أكثر واقعيةً وقابليةً للتنفيذ، فالهدف يجب أن يكون دولة المؤسّسات التي تُحقّق حقوق المواطنة الكاملة والمشاركة الشعبية في السلطة، بما يضمن الاستقرار، ويُعزّز من فرص التعافي الوطني بعد سنوات طويلة من الصراع. لهذا، استمرار الصراع المسلّح، سواء كان من أفراد خارجين عن القانون أو فصائل غير مندمجة مع السلطة، لأسبابٍ طائفيةٍ أو عرقية، وفي ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي خلّفها نظام الأسد القاتل والفاسد، يعرقل مسيرة توطيد الأمن في البلاد، ويمكن أن يُنسَب إليه أيضاً، عرقلة توفير مستلزمات الحياة الضرورية، التي يأتي في مقدّمتها تحفيز اقتصاد سورية لاستعادة دوران العجلة فيه، وهذا لن يتحقّق ما لم يُكبَح جماح النزاعات المسلّحة. وبكل صراحة، أيّ استمرار في الاقتتال هو عملية تجويع للسوريين كلّهم، وعلى اختلاف مواقعهم الجغرافية من شرق وغرب وشمال وجنوب، فمن يُقدّم سلاحه على التفاوض، فعليه أن يفهم أيضاً أنه يموّله من لقمة السوريين وعلى حساب أمانهم.

930EB9D8-8BB0-4CDA-8954-FE630C4A380F
سميرة المسالمة

كاتبة وصحافية سورية، رئيسة تحرير جريدة تشرين سابقاً، نائب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية