Skip to main content
اتفاق سلام كتحضير لحرب
أرنست خوري

لطالما استُخدم مصطلح السلام لتحضير حروب. كان ذلك يحصل في معظم تحالفات حقبة الحرب الباردة لتنظيم كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي حروبهما بالوكالة، بشكل يعفيهما من المواجهة المباشرة. في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، غالباً ما كانت الحروب تَلي تأسيس الأحلاف. البند الأول من ميثاق حلف شمال الأطلسي (1949) نصّ على "الحفاظ على السلم والأمن"، قبل أن تأمر مادته الرابعة التي كانت سرية بـ"التصدي للزحف الشيوعي"، لا بالفكر والحجة والمنطق، بل برسم خريطة سير الدبابات. مانيفستو حلف بغداد تصدّره بند ثالث شبيه، يثرثر عن "التعهد بتسوية المنازعات بالطرق السلمية". الحلف العالمي المقابل، أي "وارسو" (1955)، لم يكن بحاجة لبنود حربية سرية، فالقتال في العرف السوفييتي هو دليلك الشامل لبلوغ السلام. كذلك كان حال "حلف جنوب شرق آسيا" (سياتو/ 1954)، تتحضّر دوله لحرب محتملة ضد الصين الماوية وملحقاتها في تلك المنطقة، مع إضافات ثقافية وتربوية لا لزوم لها عن توعية النشء الجديد في المدارس على مكامن الشر في المعسكر الاشتراكي، وكله باسم السلام. واليوم، ها هم أصحاب "اتفاقات أبراهام" يصرّون على تسميتها اتفاقات سلام، بينما هي إعلانات تحالف إقليمي تشغل قرقعة السلاح موقع القلب منها. 

بإصرار حكام أبوظبي والمنامة على تثبيت أنّ ما بات يجمعهم بإسرائيل هو معاهدات سلام، فإنهم يقدمون مساهمة مفاهيمية غير مسبوقة لسلام ينشأ بلا حروب ولا عِداء. الدولتان الخليجيتان لم يسبق لهما أن اقتربتا من الاشتباك مع إسرائيل، لا مباشرة ولا بالواسطة. التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا وظروف استقلال الإمارات والبحرين عن الإنتداب البريطاني وبُعدهما عن ميدان الاشتباك وبنيتهما القبلية (كحال كل بلدان الخليج العربي) أمّنت لهما ظروف بحبوحة نفطية فرضت اقتصاداً صادر الحقوق السياسية للمواطنين، في مقابل توزيع ريع مالي وازن عليهم. وإذا كان زمن غابر قد فرض عليهما الالتزام بأدبيات النزاع العربي ــ الإسرائيلي، فإن ذاك التاريخ طويت صفحته منذ عقود، واختار حكام البلدين وجهة معاكسة وعدواً بديلاً ونظرة مختلفة إلى الذات وإلى مستقبل المنطقة، تٌرجمت بعلاقات قديمة مع إسرائيل، لم يسعَ أي من الطرفين إلى إخفائها، حتى وإن لم يكن التوقيت مناسباً لترسيخها باتفاقات تطبيع علاقات رسمية حكومية علنية. إذاً، شروط إبرام معاهدة سلام، مفقودة بين الطرفين، بينما كل ظروف التحالف حاضرة. والسلام نقيض بالطبع للأحلاف، وهو ما ارتكزت عليه مصالحات ما بعد الحرب العالمية الثانية. 

حكام الإمارات والبحرين (أي السعودية بالإنابة) يقفون اليوم أمام احتمال جدي بتغيُّر الزمن الأميركي نحو رفع الحماية بالتقسيط عن بلدان الخليج في وجه إيران. لطالما قيل إن دونالد ترامب لا يشنّ حروباً عسكرية، وقد أظهرت السنوات العجاف الأربع لولايته صحة المقولة، وكل المؤشرات توحي بأن بقاء ترامب رئيساً لولاية ثانية، أو حلول جو بايدن بدلاً منه، لن يغيّر شيئاً في نوايا الانسحاب الأميركي العسكري المباشر بالتدرّج من المنطقة. والحماية الإسرائيلية في وجه إيران اليوم، وربما ضد تركيا غداً، هي خيار إماراتي ــ بحريني ــ سعودي بدأت بلورته والتهيئة له إعلامياً وأمنياً منذ فترة ليست بقصيرة. والحماية الإسرائيلية تلك يمكن أن تكون دائمة، بينما الأميركية محكومة بأن تظل مؤقتة لكونها مرتبطة بأولويات المزاج السياسي في واشنطن، وبوجود المنافس الاستراتيجي أو العدو أو الخصم، أو بغيابه، ولأنها ستبقى متصلة بوفرة الثروات الطبيعية أو تضاؤلها في تلك المنطقة، وبأهمية الطرق البحرية أو بتغيّر خريطة التجارة العالمية. أما إسرائيل، فمهما تغيرت الظروف، فإنها ستبقى ترسانة عسكرية تستمد جزءاً من قوتها العسكرية من الحماية الأميركية الخاصة بها، والتي لن تتأثر شروطها بما قد يطرأ على حماية بلدان الخليج. 

في هذا كله وذاك، لا مكان للسلام، ولا لفلسطين ولا للصراع العربي الإسرائيلي، وإلا لما أصرّ الطرفان على إبقاء مضمون اتفاقي "أبراهام" سرياً.