اتحاد الشغل وقيس سعيّد .. تجلّيات المواجهة

اتحاد الشغل وقيس سعيّد .. تجلّيات المواجهة

15 يونيو 2022

تونسي بين حشد يستمع في العاصمة إلى أمين عام الاتحاد العام للشغل (11/6/2022/Getty)

+ الخط -

يعد الاتحاد العام التونسي للشغل منظمة نقابية، مدنية، عريقة، ذات امتداد اجتماعي معتبر في تونس قبل الثورة وبعدها. اضطلعت المنظمة بدور فاعل في دحر الاستعمار الفرنسي، وساهمت في بناء ما تعرف بالدولة الوطنية. وكافحت زمن الاستقلال ضدّ الميول السلطوية للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وقادت تحرّكات احتجاجية شعبية للحدّ من تفرّده بالحكم وللدفاع عن مصالح العمّال (1978). ومع أنّ دورها النضالي آل إلى الانحسار على عهد الجنرال المخلوع زين العابدين بن علي، فإنّها ظلّت ضامنا لحقوق الأجراء في القطاعين العام والخاص. واستعادت المركزية النقابية حضورها الفاعل في الشارع التونسي مع ثورة 2011/2010، فساهمت في تأطير الحراك الاحتجاجي، وفرضت ضغطا مكثّفا على أصحاب القرار على نحو عزّز مكاسب الشريحة العاملة. وكان للاتحاد دور في تشكيل ملامح المشهد السياسي خلال العشرية المنقضية على كيْفٍ ما. وقاد الحوار الوطني سنة 2013. وكان له حضور معتبر في حكومات بعد الثورة (خصوصا وزارات الشؤون الاجتماعية، التربية، الوظيفة العمومية ..)، وهو في صدارة الرباعي المدني الذي فاز بجائزة نوبل للسلام (2014)، لدوره في دعم مشروع الدمقرطة، وتعزيز ثقافة الحوار بين الفرقاء السياسيين.

ولكن مع صعود قيس سعيّد إلى كرسي رئاسة الجمهورية إبّان انتخابات 2019، ظهرت على التدريج ملامح التنافر بين حاكم قرطاج والاتحاد العام التونسي للشغل. وتأكّد التباعد بينهما في فترة إدارة الرئيس البلاد بالتدابير الاستثنائية، خصوصا بعد صدور الأمر الرئاسي عدد 117 (22 سبتمبر/ أيلول2021)، الذي أصبح بمقتضاه قيس سعيّد حاكم البلاد المطلق. ويمكن رصد ثلاثة مستويات، تجلّي توتّر العلاقة بين الرجل والمنظمة النقابية الأكبر في البلاد (تضمّ حوالي 800 ألف منخرط). الأوّل، متّصل بموقف كلّ منهما من الاستشارة الإلكترونية، والثاني متعلّق بتصوّر الطرفين لمسألة الحوار الوطني، والثالث دائر على رؤية الجانبين لسياسات التدبير الاقتصادي للدولة.

كان للاتحاد العام التونسي للشغل دور في تشكيل ملامح المشهد السياسي خلال العشرية المنقضية

 

دعا الرئيس التونسيين إلى المشاركة بكثافة في ما سمّاها "الاستشارة الشعبية الإلكترونية" التي انطلقت في منتصف شهر يناير/ كانون الثاني 2022، وانتهت يوم 20 مارس/ آذار من السنة نفسها. وتضمّنت طرح أسئلة، الهدف منها استجلاء تطلّعات المشاركين بخصوص سبل إصلاح الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والثقافية بالبلاد، وتمّت إحالة الأجوبة لاحقا إلى لجنة عيّنها الرئيس لتصوغ دستورا جديدا لجمهورية جديدة بالنيابة عن التونسيين. يُفترض عرضه على الاستفتاء يوم 25 يوليو/ تموز 2022. واللافت أنّ تلك الاستشارة صدرت بطريقة فوقية، عمودية، ولم يتمّ التشاور مع مكوّنات المجتمع المدني (أحزاب، نقابات، جمعيات...)، في خصوص مضامينها وآلياتها، وكيفية مراقبتها. لذلك عبّر اتحاد الشغل عن اعتراضه عليها مبكّرا. وجاء في بيان للهيئة الإدارية للمركزية النقابية (2022/01/04)، أنّ "الاستشارة الإلكترونية لا يمكن أن تحلّ محلّ الحوار الحقيقي، لكونها لا تمثّل أوسع شرائح المجتمع وقواه الوطنية، فضلاً عن غموض آلياتها وغياب سبل رقابتها، ومخاطر التدخّل في مسارها والتأثير في نتائجها، وقد تكون أداة لفرض أمر واقع والوصول إلى هدف محدّد سلفاً، علاوة على أنها إقصاء متعمدٌ للأحزاب والمنظمات، كما أنها سعيٌ ملتبسٌ قد يفضي إلى احتكار السلطة وإلغاء المعارضة، وكل سلطة تعديل أخرى". ومن ثمّة، رجّح اتحاد الشغل أنّ الاستشارة موجَّهة، وذات خلفيات سياسية، باعتبارها تمهيدا لتمديد نفوذ الرئيس وتوسيع صلاحياته، ومطيّة لإرساء نظام سياسي رئاسوي/ أحادي، يهمّش الأصوات المعارضة، والهياكل التمثيلية الوسيطة. ومع أنّ الإقبال على الاستشارة الإلكترونية كان ضعيفا، ولم يتجاوز حدود 5% من مجموع الناخبين، فإنّ قيس سعيّد اعتبر مخرجاتها أساسا لبناء جمهوريته الجديدة، مع قِلّة، يعتبرهم "المواطنين الصادقين"، والحال أنّهم لا يمثّلون عموم المواطنين. ووقف قيس سعيّد بذلك التوجّه على طرفي نقيض مع اتحاد الشغل الذي أكّد مرارا أنّ مشروع الإصلاح بعد 25 يوليو/ تموز 2021، يجب أن يكون مشروعا تشاركيا، شاملا، جامعا لأكبر طيْف من التونسيين.

لئن أيّد اتّحاد الشغل حركة 25 يوليو الاحتجاجية، ولم يعتبر التدابير الاستثنائية انقلاباً، فإنّه لم يمنح رئيس الجمهورية صكّاً على بياض

تأكّد الخلاف بين الجانبين أيْضا مع إعلان الرئيس، أخيرا، تنظيم حوار وطني، هو مَن عيّن أجندته، ومحاوره، ولجانه، والمشرفين عليه وذلك بموجب المرسوم الرئاسي عدد 30 لسنة 2022. حوار رفضت المركزية النقابية المشاركة فيه. وذلك لعدّة أسباب، لعلّ أهمّها أنّ توقيت الحوار جاء متأخّرا بحسب اتحاد الشغل الذي سبق أن قدّم مبادرة للحوار الوطني إلى قصر قرطاج منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2020. وذلك في فترة اشتدّت فيها الأزمة الشاملة على البلاد، واحتدم الصراع على الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث. لكنّ سعيّد لم يلتفت وقتها إلى تلك المبادرة. بل تجاهَلَها لحسابات سياسيّة ضيّقة. ويبدو أنّ اتّجاهه، أخيرا، إلى بلورة حوار على طريقته، راجع بحسب مراقبين إلى ضغوط قوى دولية نافذة، ومؤسسات مالية مانحة. فبدا الحوار المعلن رسالة موجّهة لاسترضاء جهات خارجية أكثر منه موجّها إلى الداخل التونسي في تقدير بعض الملاحظين. كما أنّ مرجعيّة الحوار بحسب ما ورد في المرسوم المذكور سلفا تتمثّل في الأمر 117 لسنة 2021 الذي جمع الرئيس، بمقتضاه، كلّ السلطات بيده، والاستشارة الإلكترونية التي عزف عن المشاركة فيها جلّ التونسيين. وكلاهما محلّ اعتراض من المنظمة الشغيلة لأنّهما لا يمثّلان العمق الشعبي، وصدرا في ظرف استثنائي، ولا يمكن الاستناد إليهما في حلّ أزمات البلاد، وبناء مستقبل وطني مشترك. يضاف إلى ذلك أنّ تركيبة الحوار قوامها لجنتان: اقتصادية/ اجتماعية، وأخرى قانونية. يعيّن قيس سعيّد رئيس كلّ منهما، والأعضاء المشاركين فيهما، وكذا الرئيس المنسّق للحوار. وهو مَنْ حدّد مهامّ اللجنتين، وجعل دورهما استشاريا، لا يتعدّى حدود "تقديم مقترحات لرئيس الجمهورية" (الفصل 3). والمراد صياغة دستور جديد وجمهورية أخرى على النحو الذي يريده الرئيس. وبناء عليه، المشاركون في الحوار الرئاسي محكومون بفضاء مرجعي مسبق، وبمجال وظيفي محدّد، وبهدف مرسوم سلفا، ولا يملكون من سلطة التقرير شيئا. فحضورهم شكلي، وهم لا يمثّلون إلا أنفسهم، إذ لم يفوّضهم النّاس ولم ينتخبهم البرلمان. بل يتحرّكون في حدود المراسيم الرئاسية. وجلّهم ينتمي إلى معسكر الموالين لقيس سعيّد. لذلك برّرت الهيئة الإدارية للاتحاد مقاطعة الحوار بأنّه "حوار شكلي متأخّر، متعجّل، تُحدَّد فيه الأدوار من جانب واحد، وتُفرض فرضا، ويقصي القوى المدنية والسياسية الوطنية فضلا على أنّه حوار استشاري، لا يمكن أن يفضي إلى اتفاقات جدّية، ويراد منه تزكية نتائج معدّة سلفا، يتمّ إسقاطها بشكل فردي، وفرضها على طريقة المرور بقوّة وفرض الأمر الواقع". (2022/05/23)، واللافت أنّ التركيبة الرسمية للحوار لم تتضمّن استدعاء ممثلين عن الأحزاب، وهي نقطة خلاف جوهرية بين سعيّد والمنظمة العمّالية، فالرئيس لا يعتدّ بالأحزاب، وميّال إلى تهميشها. أمّا الاتحاد، فيعتبرها هياكل تمثيلية، لا يمكن تجاهلها في الحوار حول راهن البلاد ومستقبلها. ومن ثمّة، يريد الرئيس محاورة من يشبهونه، ويستمعون إليه، ويعملون بتوجيهاته. فيما يميل الاتحاد إلى حوار تعدّدي، تشاركي، له سلطة تقريرية، ونتائجه ملزمة. لذلك لا يستبعد مراقبون أن تعلن المنظمة الشغيلة حوارا موازيا يكون نقيضا للحوار الرئاسي أو بديلا عنه. وفي كل الحالات، يريد اتحاد الشغل برفضه المشاركة في الحوار الرسمي أن يُثبت أنّه قوّة ضغط وازنة، وأنّه معنيّ بالإنصات إلى أصوات منظوريه وتجميعهم حول قيادة الاتحاد بدل تزكية خيارات رئاسية غير تشاركية. وهو، إذ يقاطع الحوار، يطعن في صدقيته، ويقلّل من التفاف الناس حول الرئيس. ولا يخفى أنّ الصراع بين الطرفين على الحوار وغيره يحمل طيّه صراعا على الزعامة وصناعة القرار بيْن منظّمة عريقة ورئيس جامح.

يريد اتحاد الشغل برفضه المشاركة في الحوار الرسمي أن يُثبت أنّه قوّة ضغط وازنة، وأنّه معنيّ بالإنصات إلى أصوات منظوريه بدل تزكية خيارات رئاسية غير تشاركية

أمّا في مستوى التدبير الاقتصادي، بلغ النزاع أوجه بين حكومة الرئيس بقيادة نجلاء بودن واتحاد الشغل. ففي عهد حكومة الأمر 117، ارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق، وتدهورت المقدرة الشرائية للمواطنين، وتواصل انحدار الدينار، واتسعت دوائر البطالة والفقر. ويتجه الفريق الحكومي إلى فرض مزيدٍ من الضغط الجبائي على المواطنين، وتجميد الأجور والانتداب والترقيات، مع التفويت في مؤسسات عمومية للقطاع الخاص. وهي سياساتٌ تعارضها المنظمة العمّالية، وتطالب بترفيع الأجر الأدنى، والتحكّم في الأسعار، وتحسين الأجور، وإصلاح منظومة الدعم وتشغيل من طالت بطالتهم، وعدم خصخصة الشركات العمومية. لكنّ هذه المطالب لا تجد التجاوب المأمول من جانب حكومة الرئيس. لذلك قرّر اتحاد الشغل شنّ إضراب احتجاجي بمنشآت القطاع العام يوم 16 يونيو/ حزيران الجاري "دفاعا عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشغالين".

ختاما، لئن أيّد اتّحاد الشغل حركة 25 يوليو الاحتجاجية، ولم يعتبر التدابير الاستثنائية انقلابا، فإنّه لم يمنح رئيس الجمهورية صكّا على بياض. بل ظلّ ينتظر ترجمة الوعود بغد أفضل إلى واقع يحْياه الناس. ويبدو أنّ تعطّل قطار التغيير، ومحدودية الإنجاز، وإصرار سعيّد على المرور بقوّة لتنفيذ مشروعه السياسي بطريقة أحادية، عوامل شجّعت المركزية النقابية على النأي بنفسها عن محور الرئيس. بل انخرطت في معارضته على كيفٍ ما، وأفقد ذلك سعيّد غطاء شعبيّا معتبرا لا محالة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.