إيران وقد فاجأتنا

16 يونيو 2025

صورة دمار في إسرائيل بعد غارة إيرانية تتصدّر صحيفة في طهران (15/6/2025فرانس برس)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

طبيعيٌّ أن يكثُر الكذب في الحروب (والانتخابات). ولذلك لسنا مضطرّين إلى استقبال أنباء "نجاحات" الضربات الإسرائيلية في العُمق الإيراني بتسليمٍ مسبقٍ بصدقها، وكذلك الأمر نفسُه بشأن الضربات الإيرانية في الداخل الإسرائيلي. أما حديثا وزيرٍ في دولة الاحتلال عن طهران التي ستحترق ومسؤول إيرانيٍّ رفيعٍ عن جهنم التي ستُصبح فيها إسرائيل فلا يُنصَح بغير المرور عليهما وكأنهما من نوافل الكلام الفالت. والأدْعى، في الأثناء، أن يُؤخَذ، وإنْ بقسطٍ طفيفٍ من الحذر، بكلام الإيرانيين عمّا نزلت فيهم من ضرباتٍ وخسائر واغتيالاتٍ، وبكلام الإسرائيليين عمّا ألحقته الصواريخ الإيرانية بمبانٍ لديهم وأنفارٍ أزهقت أرواحهم. وفي البديهيِّ أن الجانبيْن قد يخفيان ما يقدّران أن من اللازم إخفاؤه. وتفيدُنا هذه المسطرة بأن المعركة حَسمَت نتائجَها، أو كادت، في الضربة الإسرائيلية الجوية الأولى، ليس فقط لأنها لم تُباغت أحداً في العالم سوى صاحب القرار السياسي في طهران، بل أيضاً لأنها أظهرت قدراتٍ استخباريةً وتجسّسيّةً لدى أجهزة دولة الاحتلال كبيرة، فباهظ الدلالة والأهمية أن في مقدور إسرائيل اغتيال سبعة علماء إيرانيين في الذرّة (ثم اثنين آخرين)، ومنهم محمد مهدي طهرانجي وأحمد رضا ذو الفقاري، في هذه النازلة، ومعهم قياداتٌ عليا ووازنةٌ في الحرس الثوري وأركان القوات المسلحة، مع استهداف منشآتٍ نوويةٍ وعسكرية. وذلك فيما لم يُنس اغتيال العالم محسن فخري زادة (الموصوف بأنه أبو البرنامج النووي الإيراني) في 2020. ولن يُنسى أن ضيفاً كان يتزعّم حركةً فلسطينيةً إسلاميةً مُحاربة، اسمُه إسماعيل هنيّة، تمكّنت دولة الاحتلال، بفعلٍ تجسّسيٍّ محكم، من اغتياله في غرفة نومه، وهو في ضيافة رئاسة الجمهورية في طهران، ولم نُصادف بعد أي نتائج للجنة التحقيق التي قيل إنها تشكّلت لكشف حقائق الواقعة المشهودة.
لا حرج في أن يُشهر أيٌّ منا مفاجأته بما بدَت عليه إيران من انكشافٍ عسكريٍّ وأمنيٍّ واستخباري، فأن يكون معلوماً أن إمكانات إسرائيل، ومنها الصاروخية المتقدّمة، متفوّقة على ما لدى دولٍ كبرى، فذلك لم يكن يعني أن إيران على هذه السوية العالمثالثية، وإن في البال إنها تحت حصار منذ 40 عاماً. ولا تنفكّ الأخبار تتوالى عن غاراتٍ إسرائيلية على مواقع متعيّنة، بعضها له حساسيته الأمنية والعسكرية الاستراتيجية (دع عنك المفاعلات النووية المعروفة سلفاً)، في طهران وشيراز وأصفهان وغيرها، فضلاً عن منشآتٍ اقتصاديةٍ حيوية. وإذ يبدو أن إسرائيل ماضيةٌ في حربها النشطة هذه إلى الأقصى، فهذا يفيد بأنها تنفذ عملياتٍ وخططاً أعدّتها، وحضّرت لها، منذ سنوات. ومن هذه الخطط ما هو معروفٌ أو متاحٌ أو معلن، من قبيل اعتماد الجيش الإسرائيلي تلك القناعة (أو العقيدة) التي ساهم في بنائها رئيس الأركان الحالي، إيال زامير، وتقوم على حاجة إسرائيل إلى حربٍ طويلة مع إيران، بعد الإجهاز على قدرات أذرعها وحلفائها في الخارج (حزب الله وغيره)، لتدمير القدرات النووية في الأراضي الإيرانية، السلمية في راهنها والميسور تحويلها إلى عسكرية بوجود علماء من طراز الذين استهدفوا في فجر عملية 13 يونيو.
ومن عجائب كاشفةٍ أن دونالد ترامب أبلغ طهران، بكيفيةٍ غير مباشرة إلى خامنئي، بمهلة 60 يوماً للاستجابة لطلباته التالية في مفاوضات مسقط وروما، وأولها الكفّ عن تخصيب اليورانيوم، وإلا فإن "العواقب المدمّرة" مؤكّدة. ومع نهاية هذه المهلة، باشر "الأسد الناهض" (الاسم الذي أطلقته إسرائيل لعدوانها) مهمّته. ومن مفارقاتٍ أخرى (كاريكاتورية ربما) أن هذا الأسد نهضَ بعد أربعة أيام من إعلان المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني امتلاك طهران معلوماتٍ استخباريةً عن المنشآت النووية الإسرائيلية، في "وثائق مفصّلة يتيح لها تنفيذ ضرباتٍ مضادّة دقيقة، في حال تعرّضت لهجماتٍ من تل أبيب". وقال المجلس إن هذا الردّ قد يشمل منشآتٍ نوويةً سرّيةً أو بنىً تحتيةً عسكريةً واقتصاديةً إسرائيلية، بشكلٍ يتناسب مع طبيعة الاعتداء... لم نلحظ في حملقاتنا على شاشات التلفزات والحواسيب والهواتف أن شيئاً من هذا أحدثتْه عملية "الوعد الصادق 3" حتى اللحظة. لم نلحظ غير استباحةٍ إسرائيليةٍ سماء إيران وأرضها وقادتها ومقدّراتها، وقد فاجأتنا طهران بيُسر هذا كله وسلاسته، أمّا مفاعيلُه وتداعياتُه فستجعلان المنطقة بعد 13 يونيو ليست كما قبله.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.