إيران والسعودية .. ترويض صراع فوضوي

إيران والسعودية .. ترويض صراع فوضوي

15 فبراير 2021
+ الخط -

يُعدُ كتاب أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا، إبراهيم فريحات، "Iran and Saudi Arabia Taming a Chaotic Conflict" (إيران والسعودية... ترويض صراع فوضوي)، الصادر عن دار نشر جامعة إدنبرة في بريطانيا (2020)، أحد أهم الكتب في باب العلاقات السعودية الإيرانية. وقد خاض فريحات غمار هذا الموضوع الشائك، وهو يدركُ، حسب تعبيره، بأن "حل النزاع بين إيران والسعودية كفيلٌ بإنهاء نصف النزاعات في الشرق الأوسط". وقناعته هذه بالضبط ما دفعته إلى دخول هذا الملف الشائك، من أجل أن يُعمق البحث والمُدارسة والنظر، إلا أن ما ميّز الكتاب أنه يستدعي منهج الصراع وحل النزاعات، من أجل أن يفكك المشهد المعقد الذي تعرفه منطقة الخليج العربي، حيث تميل جل الدراسات الموجودة في الساحة الأكاديمية، عربياً وغربيا، إلى أن تكون من منظور دراسات المنطقة، وليس من خلال دراسات قائمة على حل النزاع، وهذا ما يعتمده الكتاب الذي يحاول، في هذا الصدد، أولاً، اعتماد منهج لحل النزاع، من أجل تقييم كيف يمكن إدارة حله بشكل فعال، بدلاً من مجرّد دراسة الإجراءات التي يقوم بها البلدان حالياً. ويحاول الكتاب، أيضاً، الإلمام بالمناقشة الأكاديمية التي أُنتجت بشأن ما يمكن أن تفعله كل حكومة لحل الصراع بين إيران والسعودية، ويتخذ نهجاً يسعى المؤلف فيه إلى الإقرار بحجية أن بناء السلام الفعال يحتاج إلى أن يتم تطبيقه على مستويين، حكومي وشعبي، وهو أمر كفيل بإقامة جدلية بين الرسمي والمجتمعي، لينبثق السلام من أرضية صلبة.
كذلك يتخذ الكتاب نهجاً متعدّد التخصصات، من خلال الجمع بين دراسات المنطقة وحل النزاعات ودراسات السلام، لتقديم فهم مُتماسك لدوافع الصراع، وكيف يمكن حله بشكل فعال. مع وضع هذه الأهداف الثلاثة في الاعتبار، يمكن القول إن الفكرة الرئيسية للكتاب نظرياً أن النزاع بين إيران والمملكة قابل للحل، ولكن يجب إدارته بشكل صحيح أولاً، فالنزاعات التي تتم إدارتها وتنظيمها بشكل أفضل هي المؤهلة دائماً لحلها.

التنافس الحالي بين إيران والمملكة نتيجة تاريخ طويل من العلاقات المتوترة أربعة عقود

يستهل الكاتب كتابه بإدراك قائم على أن الصراع الإيراني السعودي يعتبر فوضوياً صفرياً، مثقلاً بشكل كبير بعدم الثقة المتبادلة بين الطرفين. وفي ظل هذه الظروف، تُمسي مسألة حل النزاع أمراً صعب المنال. ومن هنا، تأتي أهمية بناء "استراتيجية إدارة الصراع" حسب تعبير فريحات الذي يدركُ أن هناك اختلافاً كبيراً داخل المجتمع الأكاديمي بشأن الدوافع الأساسية لهذا الصراع والتنافس الإيراني السعودي الذي ترجع جذوره إلى عقود، والذي وصل إلى مستوى عالٍ من التصعيد. ولكن فريحات يرى أن لجذور هذا الصراع امتدادات عديدة، أبرزها الطائفية والأمن، وكذلك التنافس على القيادة الإقليمية، بالإضافة إلى البعد القومي والتحدّيات الجيوسياسية، فكلها عوامل تساهم في تأجيج الصراع.
ولأن التنافس الحالي بين إيران والمملكة هو نتيجة تاريخ طويل من العلاقات المتوترة على مدى أربعة عقود، على الرغم من محاولة الطرفين الاستثمار في بناء جهود صنع سلام وإدارة الصراع بينهما. وهذا التراكم التاريخي هو ما جعل الكاتب يبدأ بفصل عن البُعد التاريخي للصراع الجامع بين الدولتين، هذا البعدُ يعرفُ جدلاً في نقاط عديدة، أحدها تحديد نقطة انطلاق التنافس الإيراني السعودي؛ فهناك من يرى أن الثورة الإسلامية التي كانت عام 1979 هي نقطة انطلاق هذا الصراع، فيما يرى آخرون أن جذور الخلاف أقدم تاريخياً، وتعود إلى تاريخ القوميات العربية والفارسية، وكذلك الطائفية الشيعية السنية. ويميل إبراهيم فريحات إلى أن الثورة الإسلامية عام 1979، والغزو الأميركي للعراق عام 2003، هما المحرّكان للمسار التاريخي لصراع بين الدولتين؛ فعلى الرغم من أهمية العاملين، القومي والطائفي، فإن الصراع لم يعرف تطوراتٍ حقيقية، إلا بعد الحدثين السالف ذكرهما؛ فهما وفّرا الآليات الدافعة التي ساهمت في بدء الصراع واستدامته على مدى العقود القليلة الماضية.
كذلك يقدّم فريحات أدوات مهمة لإدارة الصراع، إحداها إنشاء لجان التنسيق أو اجتماعات الخبراء بين الدولتين، وهو حل يمكّن من تهدئة التوتر بينهما، فهذه اللجان، بحكم أنها ليست مكبّلة بالمعيقات الرسمية، تستطيع فتح خطوط اتصال، وتخفيف المخاوف السعودية، وتخفيف التعنت الإيراني، وتعزيز المحادثات القائمة على منطق "رابح/ رابح" لمعالجة الأسباب والظروف الكامنة التي تغذّي الصراع.

من شأن دمج تركيا وباكستان، وخصوصاً الأخيرة، حسب فريحات، أن يحول معادلة الصراع من التنافس إلى منطق جديد، قائم على التعاون

ومما يحسب للكتاب أنه قدّم حلولاً عملية لتجاوز النزاع الحاصل بين السعودية وإيران، ومما قدّمه وأكده فيما بعد الواقع هو ضرورة وجود وسطاء مهمين يحظون بتقدير من الطرفين، يقومون بتجسير الهوة بينهما. ويرى فريحات، في كتابه القيم، أنه يمكن لباكستان وتركيا لعبُ هذا الدور المحوري؛ وذلك لما تلعبانه من أدوار مهمة في غرب آسيا، وهو ما يمكنه أن يحول هذا الصراع إلى فرصةٍ لإعادة تصور أمن الخليج، ليس باعتباره عبئاً أو امتداداً لقوة عظمى، وإنما باعتباره مشروعاً قائماً على المصلحة المتبادلة بين جميع الأطراف. ذلك أنه على الرغم من اعتماد باكستان تاريخياً على الدعم المالي المهم القادم من العربية السعودية، إلا أنها لا تريد الدخول في صراع مع إيران، وهي دولة حدودية تشترك معها في 909 كيلومترات من الحدود.
من شأن دمج تركيا وباكستان، وخصوصاً الأخيرة، حسب فريحات، أن يحول معادلة الصراع من التنافس إلى منطق جديد، قائم على التعاون، ضامنه مصلحة باكستان الأساسية لتوازن هذا النظام المنشود القائم على السلام بين إيران والسعودية، ما يعني أنها لن تضطر للانحياز إلى إحدى الدولتين، فلا تخسر مكاسبها المالية والأمنية والقومية المحصلة منهما. وهذا الدمج، حسب الكاتب، مناسبة لبناء تحالفات سياسية كفيلة بإنهاء حالة الاستقطاب بين العرب والإيرانيين (وفق المنظور القومي) أو السنة والشيعة (وفق المنظور الديني).
ويجد هذا المقترح الفعال الذي قدّمه فريحات، في كتابه، صدىً على أرض الواقع. وتُظهر مقابلة رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، لقناة الجزيرة، دور بلاده المهم في نزع فتيل التوترات بين السعودية وإيران، فالمقابلة أبرزت أن باكستان منعت حدوث تصعيد عسكري في المنطقة، وهو بالضبط ما راهن عليه فريحات في كتابه، إذ تدرك باكستان أن المواجهة العسكرية بين القوتين الإقليميتين هي أسوأ سيناريو محتمل للشرق الأوسط، كما يؤكّد أن جهود إسلام أباد في الوساطة قائمة، على الرغم من بطئها. ومنه، فإن أطروحة فريحات في توسيع دور باكستان وسيطاً استراتيجياً اقتراح عملي جيد، لو تمت إدارته بالشكل الذي يجب.

منطق الدولة الحديثة القائم على الصراع من جهة، والهيمنة من جهة أخرى، يجعل من التدخل العسكري أمراً حتمياً

ولكن على الرغم مما جاء به هذا الكتاب القيم من حلول مقترحة، وإجابات مهمة لهذه المعضلة الجيوسياسية، إلا أن الأسئلة النقدية ما زالت تُعربُ عن نفسها وهي تتفاعل مع الموضوع. وسأكتفي في هذا الفضاء بأن أشير إلى نقطتين عابرتين مرتبطتين معاً، بمنطق الدولة الحديثة نفسه، الأمر الأول متعلقٌ بنظرية الدولة الحديثة في الواقعية الجديدة، والتي ترى أن وجود قوى صاعدة متنافسة يؤدّي، بشكل حتمي، إلى صراع عسكري، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، فمنطق الدولة الحديثة القائم على الصراع من جهة، والهيمنة من جهة أخرى، يجعل من التدخل العسكري أمراً حتمياً. والسعودية وايران ليستا استثناء عن هذا الخط الناظم، فجهود السلام هنا لا تعدو أن تكون جهوداً لتبطئ حتمية الصدام. والنقطة الثانية هي ما أشار إليه إبراهيم فريحات في كتابه، "صناعة العدو"، ومنطق طرحه قائم بالأساس على مسألة مرتبطة بوجود عدو يكمل شرعية الدولة، فوجود إيران عدوّاً أمر مهم للسعودية لتثبيت سرديتها. والأمر نفسه حاصل عند إيران. لذلك يصعب القفز على هذه النقطة من أجل بناء السلام، لأن تكلفة السلام بالنسبة لبعض الأنظمة تكون أكثر من تكلفة الحرب والصراع. وفي النهاية، لا أملك إلا أن أثني على هذا المؤلَّف، لأنه كما قال عنه حميد دباشي يستخدم لغة العقل والحكمة، ويعلمنا أن نكون متواضعين وإنسانيين في توقعاتنا.

أمكور
عثمان أمكور
باحث مغربي في العلاقات الدولية والفكر السياسي