إنها مذبحةٌ طائفيّةٌ في سورية
لا تجوزان، اللعثمةُ والتأتأة، ومعهما اللفّ والدوران، في توصيفه مذبحةً طائفيةً ما جرى (وربما ما زال يجري؟)، في مدنٍ وبلداتٍ وقرى وضيعاتٍ، في الساحل السوري، وفي القول إن البلد سيذهبُ إلى انتحارٍ يشتهيه بشّار الأسد وإسرائيل وآخرون، إذا لم ينهض الكلّ السوريُّ في ورشةٍ كبرى، عمليةٍ وعاجلةٍ، تطوّق النيران، الظاهرة والمستترة، في الشوارع والأحراش والزقاق، وفي النفوس من قبلُ ومن بعد. وإذا رأى بعضٌ في هذا الكلام مبالغةً، وإذا قيل إنه يصلُح في شأن الذين أمعنوا هناك قتلاً وذبحاً وحرقاً في مئات السوريين المدنيين، العزّل، المولودين علويين، فالتعقيبُ إنه يصلُح أيضاً في شأن الذين لم يحتملوا خسارتَهم سلطةً ونفوذاً كانوا عليهما في عهد الأسد، فحملوا السلاح ضد الأمن ثم الجيش الجديدَين. وأول القول ومختتمُه هنا إن من طبائع الدول ألا ترحَم من يتمرّدون على سلطتها بالسلاح. والذي صار أن نحو خمسة آلاف مسلّح من هذا النوع (قال العدد محافظ اللاذقية لتلفزيون العربي)، ليست إمكاناتهم القتالية هيّنة، أرادوا انتقاماً، وإقلاقاً للسلطة الناشئة، وربما انقلاباً عسكرياً مسنوداً من الخارج (وارد لكنه غير مؤكّد). وأمكن لهم، في ساعاتٍ، قتل أزيد من مائةٍ من الأمن والجيش. وليس غير الحقد، والنزوع الطائفي المريض، وراء حرق هؤلاء (العلويين) جثث عديدين من قتلاهم (السنّة).
أما التقتيل الذي أعملتْه في ناسٍ في بيوتهم، سوريين علويين، بصفتهم هذه على ما لا يجوز أن يُنسى، عناصرُ في فصائل، نُعِتت بأنها غير منضبطة، فقول وزارة الدفاع والأمن العام إن فاعليه لا يتبعونهما يضاعف المسؤولية الكبرى على السلطة، ورئاسة أحمد الشرع، فتثمين جهود تطويق الفظاعات، وضبط المسروقات، لا يُلغي، أبداً، وجوب الإجابة السريعة عن أسباب السماح لفصائل أولئك بأن تبقى خارج المؤسّسة العسكرية والأمنية الناشئة، وعن وجودها في خطوط التماسّ الطائفي في منطقة الساحل، وعن الكيفيّات التي يسّرت لها اقترافَ جرائمها التي توالت تفاصيلُ مُفزعةٌ عنها، وعن أعداد الضحايا التي رفعتها مصادر إلى ألف، واحترسَت أخرى فجعلتهم نحو خمسمائة أو أقلّ، بينهم نساء وأطفال، وشبّان ناصروا الثورة ضد الأسد. ولا حاجة للتذكير بمرجعياتٍ إسلاميةٍ (اقرأ سنّيةٍ) متشدّدة، لدى مجاميع هذه العناصر الفالتة، ولا بأنها ناوأت جبهة تحرير الشام، في واحدٍ من أطوار احترابٍ مضت في شمال شرق البلاد. والخشية ألا تكون لدى سلطة الأمر الواقع دالّةً على هؤلاء، أو قدرةً على نزع سلاحهم، ولا على أخْذهم إلى محاكماتٍ عسكريةٍ عاجلةٍ، تعاقبهم بما يستحقّون، وقد ارتكبوا شناعات قتلٍ طائفيةٍ مشهودة، طاول بعضُها أسراً وعائلات.
قد يصحّ أن ثمّة مبالغات سيقت في مشهدٍ إعلامي مشوّش، وفي توصيف ما وقع إبادةً بحقّ السوريين العلويين في الساحل، وفي تداول أعدادٍ للضحايا غير مدقّقة، إلا أن هذا كله لا يُجيز التهوين من فداحة ما ارتُكب وأهواله، فليس الحديث هنا عن عصابات لصوصٍ ومجرمين استغلّوا وضعاً أمنياً غير مستقرّ، وإنما هو عن سورية ما بعد الأسد، سورية المشتهاة معافاةً من ضغائن نهشَت في البدن الاجتماعي السوري الملوّن، سليمةً من أمراضٍ توطّنت في شعبٍ لم يعثُر بعد على إجماعِه الواحد، وعلى وطنيّته التي يتماسك فيها، بفعل مظلومياتٍ أحدثتها الأسديةُ في البلاد، عقوداً، لا تنفكّ تتناسل.
العقلاء والحكماء من سوريي الساحل كثيرون، ومبادرات مشايخ سنّة وعلويين منهم ظاهرة، غير أن هذا التطبيب الموضعي، على ضرورتِه المؤكّدة، يحتاج سياجاً سياسياً وإرادةً من صنّاع القرار ومن يقبضون على السلطة الراهنة في البلاد، ليتكامل مع مجهودٍ كبير، لا أوهام في نجاحٍ له سريع، ولا في قدرته، في يومٍ وليلة، على إنقاذ البلاد من مجرىً انتحاري، يُنشِّط مسارَه نزوحٌ من الساحل بدأ يُشاهد، ويأسٌ يتغذّى من نقصان ثقةٍ قائمٍ تجاه السلطة وخياراتها وقلّة درايتها بالحكم والإدارة، وانفلات الكلام كيفما اتفق في قضايا يُساق من يقتربُ منها في غير بلدٍ إلى المحاكم والسجون، الوحدة الوطنية وبناء الجيش وفرز المواطنين مذهبياً.
لا وصفة لدى صاحب السطور أعلاه يُزجيها إلى أهل الحكم في سورية الجديدة، غير أن أيَّ وصفة يجري البحث فيها وعنها لا بدّ أن تبدأ ديباجتُها بتسمية الذي جرى في الساحل مذبحةً طائفيةً... مرذولةً طبعاً.