إنقاذ الطنجرة

إنقاذ الطنجرة

24 أكتوبر 2021
+ الخط -

"لبنان في طنجرة بيد امرأة تهرع إلى سيارة الإسعاف". عبارة "غير مفيدة" تختصر الزمن اللبناني برمّته، مثلما تختصر اللحظة اللبنانية بانضغاطها وكثافتها.
هل كان لبنان "طنجرة" بالفعل؟ ربما، غير أنّ حاملة الطنجرة التي رأيناها في لقطة طريفة إبّان تغطية الحدث اللبناني أخيراً، المكثّف بالرصاص والقنابل قبل نحو أسبوعين، وهي تحرص على "إنقاذ" طبيخها، حرصها على إنقاذ حياتها، تجيب: "نعم".
هذا المشهد وثّقته عدسات المصوّرين، عندما هرعت سيارات الإسعاف لإخلاء المدنيين اللبنانيين العالقين في بيوتهم وسط حرب الشوارع المندلعة في منطقتي الشياح وعين الرمانة، وكنا نشاهد المدنيين يهرعون مع رجال الدفاع المدني، باتجاه السيارات المدويّة على مداخل الأزقة والحارات، بعضهم يحمل جزءاً من متاعه، وطفل "يخلي" قطته معه، غير أن المشهد الأهم، كان لتلك السيدة صاحبة الطنجرة، تحديداً، التي رفضت، في ما يبدو، التزحزح من بيتها إلا مع طنجرة طبخها.
كان واضحاً أن هذه المرأة من جيل الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينيات، التي عركت تفاصيل المعارك وخبرتها، إلى الحدّ الذي أصبحت فيه تلك المناوشات العسكرية التي تندلع بغتة، وعلى غير موعد، وفي أي شارع يقترحه المحاربون، شأناً عاديّاً، لا يوجِب الهلع الذي يعطّل المدارك، ويشلّ الخطط، حتى أبسطها، على غرار خطط "الطبيخ اليوميّ"، فكلّ ما حدث مع هذه السيدة لم يكن أزيد من ذاكرةٍ استيقظت بغتة على "مناوشةٍ" معتادة، استأنفت ما انقطع من سياقها القديم، وتدرك جيداً قيمة الطبخ، إذا طالت الحرب، وامتدّ حصار الرصاص.
وعلى غرار هذه السيدة، يشترك اللبنانيون في ثنائية الحبّ والحرب، فلديهم قدرةٌ عجيبةٌ على اكتشاف الوردة في كومة النفايات، لا يفرّطون بلحظة الفرح، ولو انطبقت عليهم هموم الدنيا مجتمعة. وهم أسياد المفارقات بامتياز، يغضبون فيضحكون، ويضحكون فيغضبون، يتحابّون ويتنابذون، ينصهرون بكلّ فئاتهم ومكوّناتهم، فيمرّ المزيج من ثقب الإبرة، لكنّهم، في لحظةٍ مفاجئة، يتباعدون ويصطفّون ويتخندقون، ويفتحون الجبهات بعضهم ضدّ بعض. وفي المساء، يعاودون الاجتماع على زجاجة عرق وسمكة مقلية، في حانةٍ على البحر، أو في مسجد في الجنوب. السكّير صديق الشيخ، والمدمن صديق الطبيب، والتاجر رفيق الشاعر، والمحارب خدين الفنان... ولو كان ابن خلدون على قيد الحياة، لأعاد النظر في نظرية علم الاجتماع كلها التي وضعها، أمام هذه المفارقات التي تنسحب حتى على الطوائف والملل اللبنانية؛ إذ يصعب الفرز والتنقيب في الشارع اللبناني بين سنّي وشيعي ومسيحي... يتحاربون ويتآلفون.
ربما اختصرت فيروز، أيضاً، القصة اللبنانية برمّتها، حين غنّت: "حبّوا بعضن... تركوا بعضن" والعبارة قابلة للدوران والتدوير بالطبع بلا نهايات، غير أن السياسيين وحدهم لم يكن لهم مكان في أغنية الحبّ هذه. ولذا رفضت فيروز أن تغنّي لأيّ شخصية سياسية في حياتها. كانت تعرف جيداً مكرَهم ودهاءهم، وخطورة عبثهم بالوتر الطائفي، تحقيقاً لمآرب خارجية وداخلية.
عموماً، لا أدري ما حلّ بتلك السيدة وطنجرتها، وإلى أين أخلتها سيارة الإسعاف، غير أني على قناعةٍ بأنه كان ثمّة تحالفٌ بين رجال الإسعاف والمرأة إياها على إنقاذ الطنجرة، وإلا ما سمحوا لها بحمْلها في لحظات الارتباك تلك، خصوصاً أنّ الأولوية في مثل تلك الحالات للبشر لا الطناجر، ربما لأنهم يعرفون معها أن لبنان نفسه بمكوّناته وطوائفه، بتوابله وبهاراته، قابعٌ في طنجرةٍ عادية يمكن أن تتمخّض عن مزيج شهيّ يشبع الجميع، لكنها، في الوقت نفسه، قابلة لأن تتحوّل إلى طنجرة ضغط لا تحتمل مزيداً من التسخين والتحشيد ونفث الأحقاد، وتحكيم السلاح بديلاً للحوار، لأنها حتماً ستنفجر كما انفجرت من قبل، وخلّفت أكثر من 150 ألف قتيل في 15 عاماً، وكانت أرضاً صاخبةً لحروب الآخرين الذين كانوا يتحاشون المواجهات المباشرة، ويختارون تصفية حساباتهم على أرض الأرز.
يتعيّن على اللبنانيين جميعاً أن يهرعوا، مثلما هرعت تلك المرأة، لإنقاذ الطنجرة.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.