إمّا سحر أو "ميوت"

14 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 02:54 (توقيت القدس)
+ الخط -

سنَّ أولياء الإعلام، ومالكو ألسنتنا الزرقاء، ومفاتيح قلوبنا الحمراء، ومغاليق أسرارنا السوداء، آدابَ دخول وسائل التواصل الاجتماعي المقدّسة والمكوث فيها. ومعروفٌ أنّ من يملكها هو من يضع شرائعها.

إحدى هذه الآداب أنه عند عرض مشهد حادث سير مؤلم، قد يكون سببه جهل السائق، وضحيته السائق نفسه، يُسبَق العرض بالتحذير من رؤيته بالقول: "مشهد صادم"، ويُعسَّر الوصول إليه بإضافة درجة سلَّم، أو كلمة مرور، أو بطء تحميل، وأحياناً يُحذف المقطع المصور كما فُعل مع جرائم الأسد وشبّيحته، فكأن مالكي المنصّات قد عفَوا عنه بعد المقدرة، حرصاً على مشاعرنا الرقيقة. لا يزعل الذئب ولا يغضب الغنم.

وقد يعتذر أصحاب الذوق الرقيق عند تدفّق مشاهد جنسية بقولهم: "مشهد جريء" (وشجاع وباسل وبطل). كانت الجُرأة في الحروب، فأصبحت في الجيوب، ليس جيوب الثياب، إنما جيوب الأجساد: فوق سنّ 18. وكأنّ من دون هذه السنّ ما إن يرى العبارة، حتى ينكص على عقبيه ويقول: "يا ساتر" وينصرف، حرصاً على أخلاقه الرفيعة من الردى، وعلى أدبه الشريف من الأذى.

إنها تحذيرات شبيهة بالوصايا المكتوبة على علبة الدخان المغلَّفة أحسن تغليف، والغالية الثمن، التي عملت شركات ضخمة عقوداً في ترويجها، مثل مشهد الفارس الكاوبوي الوحيد في البرّية وهو يشعل لفافته من جمرة نار أوقدها بحجر الصوّان. السيجارة هي حوّاء الخليقة، "وَالنارُ مَعبودَةٌ مُذ كانَتِ النارُ".

لكنّنا لا نرى مثل هذه التحذيرات في نشرات الأخبار عند عرض مشاهد القتل غير المباشر بالجوع، أو القتل المباشر بالقنابل الضخمة في غزّة. السبب: الإذلال والترويع. المشاهد صادمة، كما يقول التعبير الإخباري الشائع (المأخوذ من الترجمة الحرفية)، وهي تُذكِّر بأفلام التعذيب في الغرف السوداء، التي قيل إنَّ شبيحة الأسد كانوا يبيعونها لأثرياء فاسقين، مدمنين على مشاهدة التعذيب، ويدفعون مقابلها أجوراً سخيّةً، حرصاً على مشاعرهم غير الرقيقة.

أمر البحث عن مروءة أو نخوة على وجه الأرض، يشبه البحث عن ماء في كوكب المريخ.

قد تجد أصواتاً مندّدةً بما يقع في غزّة، وأكثرها في الغرب، لكن الأصوات العربية قليلة. كأن "متعمل لنا ميوت": تصميت وتخريس. فما ضرّ مطرباً عربياً لو أنه قال أقلّ ممّا قاله بوب ديلان عندما دعا على "جيش الدفاع الإسرائيلي" بالموت؟ كأن يدعو المطرب إلى إطعام أهل غزّة؟ أو أن يلبس وشاحاً فلسطينياً.

والحاصل أن عرض أجساد الأطفال المجوّعين، يشبه كائنات فضائية متخيّلة في أفلام الخيال العلمي: وهم أصحاب رؤوس كبيرة وأجسام نحيلة. كنا نرى مثلهم في أفريقيا، بسبب كوارث طبيعية، لا بسبب كارثة صناعية، تشارك فيها الدول الشقيقة والرقيقة.

ما نراه متحف بشري للمجوّعين، والأحياء المحنّطين على الهواء مباشرة، أو عرض غير طبي بالأشعة السينية.

يسأل المذيعُ ضيفَه السياسي والإعلامي الأميركي: لماذا تقبل أميركا بمشاهد الجوع المفطرة للقلوب، وتدعمها وتباركها؟ فيُجيب الضيف: "إن أميركا ترى أنَّ حركة حماس هي السبب، وأن عليها أن تقبل اقتراح ويتكوف. فيردّ عليه المذيع، ناقلاً عن صحيفة إسرائيلية: "إن حماس قبلت العرض تلو العرض، لكنّ إسرائيل كانت تُعدِّل كلّ عرض إلى اقتراحٍ آخر". فعهود إسرائيل مطّاطة، مثل حدود دولتها المرنة".

ووددتُ لو قال المذيع: إن كانت حركة حماس إرهابية كما تقولون، فهل ترضون لأنفسكم أن تكونوا مثلها؟

إنّ ما نراه ليس حصاراً، بل صلب شعبٍ كامل على الهواء مباشرة. أمّا مشاهد اصطياد الغزّيين بمصيدة الرغيف، فهي تُشبه لعبة قتل شهيرة، وإنّ غزّة التي يعِد ترامب بتحويلها "ريفييرا فرنسية"، هي حالياً "مدينة رعب" من "ديزني لاند"، "شو" أيضاً.

يخرج سياسي عربي فيعلّمنا العدّ: أنّ القدس هي أولى القبلتَين وثالث الحرمين، لكنّه يغفل أن إسرائيل هي القبلة الأولى والوحيدة لأميركا والغرب، وحرمهم الأول، كأنّ ما يجري ليس واقعاً، بل فيلم خيالي عن كائنات عُمل لها "mute" في نشرات الأخبار ومدار الساعة.

"ميوت" جمع "ميّت" يا غالي.

أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر