إلّا نفسية الأمة يا خديجة
كان ياما كان، في حاضر الزمان، "دولة" جمهورية ديمقراطية، مثل الفل.. فل، لم "يتداول" سلطتها أحد سوى أسرة وقعت البلاد في أسرها! وكان فيها تهمة كبيرة جداً تودي بمرتكبها إلى الهلاك، وهي "إهانة الشعور القومي"، كان للتهمة اسم آخر هو "وهن نفسية الأمة". رعايا تلك الدولة يحبون قومهم وأمّتهم، مثل جميع الأمم، لكنهم كانوا يساقون في الحديد إلى الظلام بحد الحسام. الواحد من الرعية عليه أن يمشي، مثل البهلوان، على شعرة الشعور القومي، من غير أن يقع.
يحسد الزميل زميله في العمل على مكافأة، فيتهمه بإهانة الشعور القومي، فتأتي المخابرات، وتذهب به إلى معدة المجهول. امتلأت معدة المجهول، وضاقت الشمس بما وراءها، وازدهرت صناعة الوشاية. اعتقل صبيان وبنات في "عمر الورد"، وشيوخ في عمر القرع، هذا معتقل بسبب كتابة عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" على سيارته، والثاني لأنه شمّت زميلاً عاطساً، وثالث لأنه كتب مقالاً نقدياً عن عبلة زاعماً أنّها رمز الحرية، ورابع سأل سؤال لينين: ما العمل؟ في العدوة الأخرى، كان العدو يهين الأمة نفسياً وجسدياً، ويعتدي على أرضها وعرضها، ويبطش بشعبها ويسرق ثرواتها، فتتصرف دولة الشعور القومي الرقيق بكرمٍ أصيل وسماحة فائقة، أو تهدّد بالرد في المكان والزمان المناسبين!
حاول بعض الأحرار معرفة هوية الشعور القومي، ما هي محدداته، مواصفاته، حتى يتجنبوا إهانته، فالحكم على الشيء جزء من تصوره؟ كل الدول تضع علامات تحذير، مثل الأشرطة الصفراء عند الحفر في الطرق الخطرة، إلا تلك الأمة التي ترقد على حجارة لن تفقس أبداً.
سأل الأحرار أولي الأمر: نريد معرفة العلامة البرتقالية والحمراء والخضراء في الشعور القومي ونفسية الأمة، فاعتقلوا: مجرمون، تدّعون أنكم كتاب ومثقفون، ولا تعرفون أركان الشعور القومي! بالتأكيد، أنتم مندسّون وخونة.
تقول خديجة لزوجها عبدو الذي يقود سيارته، عائداً إلى حضن الوطن من الغربة:
- يا عبدو.. الشرطي نهب الحقيبة.
- سرقة الحقيبة، ولا إهانة الشعور القومي، يا خديجة.
بعد الوصول: جارنا تحرش بي.
- سنسكت يا خديجة، لعل الرجل كان يريد مبادلتك شعوره القومي؟
قلّ الخير، وصار الشعب جباناً يخاف من خياله، وبات الإنسان حيواناً، والحق أنّ الحيوانات تغار على أهلها وقومها، بل إننا رأينا في الأفلام الوثائقية من عالم الحيوان فرس نهر يغار على غزال من تمساح، ولبوة تربي خشفاً، وبجعة تطعم أسماكاً، إلا أبناء الرعية الغيورة على شعورها القومي سريع العطب، فهو أهم من الدين والمال والنفس والعرض. عاقب الله دولة الشعور القومي" النكيتيف"، فحبس عنها المطر سبع سنوات، وزاد معدل الانتحار، وارتفع معدل الهجرة إلى بلاد شعورها القومي أكثر صلابةً، ونفسيتها أقوى وأمنع. طبعاً لكل داء دواء، وكان الدواء ضد هذه التهمة لغير القادرين على الهجرة هو النفاق: الخروج في المسيرات العفوية، الإكثار من مدح الرئيس، وحكمته في الدفاع عن نفسية الأمة، الوشاية بمن يهينون نفسية الأمة، مع أنّ العدو يغتصب الأمة على الهواء الوثير مباشرة.
أخيراً، باتوا يعتقلون الضحايا بعد نظرة في "الهوية"، ويبدو أنّ بعض الأسماء تهين الشعور. كان شعور هذه الأمة الموقرة أوهى من بيت العنكبوت. تقول الأخبار إنّ الدولة صارت أنقاضاً، وهرب معظم القوم من مخاطر إيبولا الشعور القومي، وأنّ أعور وقع على جثةٍ، طحنتها قاطرة مقطورة (24 عجلة) فنظر إلى عيني الضحية العجين السالمتين، وقال متغزلاً بالضحية: "رمش عينو اللي جارحني".