إلى ملء الفراغ الفلسطيني

إلى ملء الفراغ الفلسطيني

13 فبراير 2022
+ الخط -

أخيرا، انتهى اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني، وأعلن عن قراراته، المعتادة من دون تنفيذ في الآونة الأخيرة، كما انتهينا من توارد الأخبار عن الفصائل المشاركة في الاجتماعات وتلك المقاطعة، وربما سوف ننتهي بعد أيام، أو على أبعد حد بعد بضعة أسابيع، من مطالبات إعادة هيكلة المجلس ومنظمة التحرير ومجمل البيت السياسي الفلسطيني، إذ غدت هذه الأخبار والأحداث مكرّرة كثيرا وكأننا في حلقة مغلقة وضيقة، لا نكاد نعبر إحدى نقاطها حتى نعود إليها، من دون جديد يذكر، وطبعا بلا أي فائدة، فكل تلك الأحداث تفاصيل صغيرة مكملة لصورة انهيار الجسم السياسي الفلسطيني، الفاقد القدرة على التأثير منذ زمنٍ لم يعد قريبا، من دون التقليل من قدرته على المراوغة والمساومة داخليا وخارجيا.

على الرغم من صحّة قرار مقاطعة اجتماع المجلس المركزي، إلا أنه متأخّر جدا وشكلي نسبيا، والأهم تبدو المقاطعة، قياسا إلى تجارب سابقة، مجرّد مناورة، بغرض التفاوض لاحقا، وفقا للتطورات الإقليمية والدولية ولحجم المكاسب الفئوية؛ أي وفقاً لثمن عودة المشاركة ولمصالح الجهات الداعمة. وهي الصورة التي كثفتها، بأبشع تجلياتها، المساومات التي صاحبت جهود حركة فتح في إقناع قيادة الجبهة الديمقراطية بالمشاركة في الاجتماع، وتكللت بالنجاح وفق أهداف قيادة "فتح" منها، وربما أهداف "الديمقراطية" أيضا. في ظل ذلك كله، كان من المثير للاستغراب مدى توق الشارع الفلسطيني، واليساري تحديدا، إلى صناعة هالةٍ بطولية ما، إذ تحولت مقاطعة الجبهة الشعبية ومشاركة نظيرتها "الديمقراطية" إلى مؤشّر موثوق يحدّد أيا منهما تنظيمي يساري بحق، حيث بات فعل المقاطعة عملا بطوليا ناجزا يستدعي الفخر!. مرّة أخرى، يعيد التاريخ نفسه بصورة هزلية، أو بالأصح شديدة الهزالة، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل: يا ترى، كم مرة سوف يعيد التاريخ نفسه؟ وكيف تبدو صورة المشهد الفلسطيني في فصل انهياره أخيرا؟

لم تعد الفصائل والقوى والهيئات الرسمية الفلسطينية تخفي تبعيتها لقوى إقليمية ودولية، بل تكاد تجاهر بذلك

في كل الأحوال، يبدو الشارع الفلسطيني توّاقا لكسر هذه الحلقة، وللخروج من القاع الذي نحن فيه، لكن أيضاً يبدو متخوّفا من تداعيات هذه المهمة، الأمر الذي يدفع بعضهم إلى التأقلم مع الإشكالية الفلسطينية، على أمل أن تتغير لاحقا بفعل قوى خفية، أو بفعل ضغوطٍ ممارسة هنا أو هناك. لذا نلحظ تمسك غالبية القوى والمبادرات السياسية والتحرّكات الشعبية بممارسة الضغط الإعلامي، وربما السياسي لا أكثر، والذي تمثل مقاطعة الاجتماع ذروته. حتى غدت المقاطعة فعلا نضاليا من دون أي اعتبار لتوقيت المقاطعة، ولأسباب عدم المقاطعة سابقا، ومن دون التدقيق في مسؤولية المقاطع عن الحالة الرثّة التي نحن بها اليوم، وبالتحديد عن دوره في تحويل قضيتنا من قضية تحرّر إلى قضية دولة على جزء بسيط من أرضنا، فعلى الرغم من التسويف الذي تمارسه القيادة المسيطرة على الجسم الفلسطيني اليوم، إلا أن الحضيض الحالي يعود إلى أسبابٍ قديمة، جرى خلالها تكريس قدسية منظمة التحرير والفصائل الفاعلة على حساب قدسية استعادة الحقوق المستلبة. وعليه، بات الدفاع عن شرعية القيادة هدفا مركزيا، بل ومهمة رئيسية لا يصحّ التهاون بها، وتحولت هذه المهمة إلى سلاح القيادة الأهم في إقصاء جميع الأصوات والمجموعات المعارضة، في حين شَرعت قيادات المنظمة والفصائل أبوابها أمام التدخلات الإقليمية والدولية، على اعتبارها ضرورات دبلوماسية لا أكثر، فانعزلت عن الشارع، وباتت تابعة كليا لهذا الطرف أو ذاك.

إذ يعد تبنّي البرنامج المرحلي أحد تجليات الهيمنة الخارجية، وكذلك في عودة الجبهة الشعبية عن مقاطعة اجتماعات المنظمة، وإعلان التزامها البرنامج المرحلي الذي قاطعت المنظمة من أجله، ومن ثم في مؤتمر مدريد وإعلان الاستقلال واتفاق أوسلو الذي كرّس سلطةً وظيفيةً بمهمات أمنية أولا، ونقل التدخل الخارجي إلى مستوى آخر، أخضع توزيع المناصب والمسؤوليات إلى حسابات وتوازنات خارجية، مثل رئاسة الوزراء التي فُرض فيها محمود عباس زمن رئاسة ياسر عرفات. وكذلك في دور داعمي حركة حماس بتحديد قياداتها النافذة في الشأنين، العسكري والسياسي، داخل فلسطين وخارجها، وكذلك في دورهم في تحديد خطابات الحركة كما في التهجم على معارضي السلوك الإيراني في منطقتنا العربية؛ "شواذ الأمة"، وكذلك في تودّد "حماس" لمحور التطبيع من المغرب إلى الإمارات. وأيضا في تحوّل خطاب (وبرنامج) زعيم اليسار الفلسطيني الجبهة الشعبية؛ كما يحلو لبعضهم وصفه؛ من برنامج دولة فلسطين الواحدة إلى دولة فلسطين الإسلامية، وفقا لمسؤول دائرة العلاقات السياسية فيها، ماهر الطاهر، وقبل ذلك في انخراطها في المهزلة السلطوية.

على الكتلة الاجتماعية الفلسطينية أن تتجاوز مخاوفها وتبادر إلى ملء الفراغ، ولو تطلب ذلك إعادة بناء كامل الجسم الفلسطيني

إذا، لم تعد الفصائل والقوى والهيئات الرسمية الفلسطينية تخفي تبعيتها لقوى إقليمية ودولية، بل تكاد تجاهر بذلك، فالأموال الإيرانية غزت التيارات الإسلامية وتلك المحسوبة على اليسار، في مقابل أموال أوروبية وأميركية هيمنت على مؤسسات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وعلى مختلف تيارات "فتح"، من دون تناسي مال خليجي أيضا. في حين غاب الشارع الفلسطيني كليا عن المشهد، وبات مجرّد ديكور ضروري لتكملة مشهد تقديس القيادة، فالقيادة، لسوء الحظ، تطلب شعبا أو مجموعة بشرية كي تقودها. وعليه، بات الشارع الفلسطيني حاجة موضوعية لا حاجة شرعية. لذا لا تحتاج هذه القيادة إلى عملية انتخابية حقيقية، وإن كان إجراؤها، في بعض الحالات، أمرا دعائيا حسنا، في حال ضمنت نتائجها، كما في انتخابات السلطة عامي 1996 و2005 ونسبيا في انتخابات 2006.

قد يسهل استقدام عشرات الدلائل على عدم شرعية القيادات الحالية حتى تلك المنتخبة في بعض الصالات المغلقة، وربما يسهل تفنيد شرعية غالبية المجالس الحاكمة والناظمة للعمل السياسي الفلسطيني، الشكلية منها كما في المنظمة، والعملية أيضا كما في سلطتي الأمر الواقع، لكن لا فائدة تذكر من ذلك الآن، فالجسم السياسي الفلسطيني غير عابئ برأي الشارع وجل ما يهمه شرعية دولية وإقليمية أو بالحد الأدنى شرعية الجهة أو الجهات الداعمة. والمجتمع الدولي والإقليمي غير معني بهذه الدلائل، بقدر ما يعنيه مدى تمثيل هذه القيادات مصالحه. أما المجتمع الفلسطيني صاحب العلاقة المباشرة والحاسمة بإنهاء هذه المهزلة، فمتخوّف من صعوبة المهمة ومن مخاطرها، لذا يعلق الآمال على الإصلاح الداخلي الذي يتطلب تجاوب القيادات المنتفعة ذاتها!

خلاصة القول، انقضت مرحلة وحان الوقت كي تُطوي صفحتها، أو بالأصح لقد تأخر في طيها، الأمر الذي يعيق بداية مرحلة جديدة، فالتاريخ لا يقبل الفراغ، ولكل نهاية بداية، فتأخير البداية يطيل من عمر النهاية ولو نظريا. لذا على الكتلة الاجتماعية الفلسطينية أن تتجاوز مخاوفها وتبادر إلى ملء الفراغ، ولو تطلب ذلك إعادة بناء كامل الجسم الفلسطيني، وإلا سوف يقدم غيرنا على ملء هذا الفراغ بما يخدم مصالحهم وغاياتهم، وعندها سوف نصبح في وضع أصعب وأعقد، وتصبح كلفة الخلاص أكبر والزمن الذي نحتاجه أطول.

75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.