إطلاق سراح موقوفين تونسيين... تخفيف ضغط؟

24 فبراير 2025

سهام بن سدرين عند إطلاق سراحها من سجن منوبة قرب العاصمة تونس (19/2/2025فرانس برس)

+ الخط -

خلافاً للتوقّعات، أطلقت السلطات التونسية في الأسبوع الماضي سراح بعض الموقوفين، في خطوة فاجأت الجميع، بمن فيهم أنصار النظام. كانت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة (المؤتمنة على مسار العدالة الانتقالية) سهام بن سدرين أوّل من أفرج عنهم ثمّ تلاها الصحافي محمّد بوغلاب، والوزير السابق للتنمية المحلّية رياض المؤخّر، وبعض المدوّنين. لم يتجاوز عدد هؤلاء أصابع اليد، ولكن الحدث كانت له ردّات فعل مختلفة.
قضت بن سدرين ما يناهز سبعة أشهر في التوقيف، وأحيلت على القضاء بعدة تهم، تدور حول شبهات سوء تصرّف وعدم احترام التشريعات في ما أُوِكل إليها من مهام عند رئاستها هيئة الحقيقة والكرامة، الهيئة التي أوكل إليها دستورُ 2014 معرفةَ حقيقةَ الانتهاكات الجسيمة، ومحاسبة الجلّادين، وتحقيق المصالحة، وحفظ الذاكرة الجماعية. مهام يرى بعضهم أنها لم تُدرَك، خصوصاً بعد انقلاب الرئيس قيس سعيّد، وإنكاره التامّ هذا المسار، في ظلّ التحرّش المتنامي بالمناضلين، واعتبارهم غنموا تعويضات أغرقت ميزانية الدولة في المديونية. ينفي الضحايا هذه التهم كلّها، فصندوق التعويضات ظلّ فارغاً ولم يودع فيه ملّيم واحد. كما تنفي سهام بن سدرين التهم التي وُجِّهت إليها، وتعتبرها كيديةً، خصوصاً من خصومها، وهم كثر؛ بقايا الدولة العميقة، وكبار قادة أمنيين كشفت الهيئة وبن سدرين اشتغال نظامهم القمعي في تحالف مع فساد عائلة زين العابدين بن علي وأصهاره.

أنصار سعيّد لم يسعدوا بالإفراجات، ورأوا فيها تنازلاً لضغوط داخلية وخارجية، مطالبين بتشديد القبضة الحديدية بلا هوادة

لاحقت بن سدرين تهم وشائعات عديدة مُغرِضة. كان في استقبالها عند خروجها من السجن العديد من المحامين ونشطاء حقوق الإنسان، استبشروا خيراً بقبول المحكمة إطلاق سراحها، على أن تمثُل أمام القضاء في المسار القضائي الذي لا يزال مفتوحاً في حقّها. ولكن، مهما كانت المآلات القضائية لسلسة المحاكمات المقبلة، فإن الإفراج، في حدّ ذاته، يُقرأ قضائياً بأن التهم ليست خطيرةً، وهذه هي الرسالة التي تلقّاها أنصارها، وطيفٌ واسع من الحقوقيين والنخب السياسية، خصوصاً في ظلّ حملات التشويه التي طاولتها. والحقيقة أن جلّ ما قيل كان من أجل شيطنة مسار العدالة الانتقالية، وترذيل الأصوات التي ناصرت هذه التجربة، التي (للأسف!) كانت نتيجتها دون المأمول لأسبابٍ عديدة، لا تتحمّل بن سدرين وحدها نتائجها؛ تردّد الإدارة العميقة، تمرّد الجلادين الذين أسّسوا نقابات أمنية وتمتّعوا بحصانة أبدية... إلخ.
وتتالت أفراح الديمقراطيين والحقوقيين حين أُفرِج عن الصحافي محمّد بوغلّاب، وهو صوت مشاكس ومتمرّد لم تستطع الحكومات المتعاقبة أن تُخمِده. كان صحافياً في عدة إذاعات وقنوات تلفازية عمومية وخاصّة. ناصب العداء كلّ السياسات التي جُرّبت خلال عشرية الانتقال، وما بعدها. لم يطمئن إلى الانقلاب الذي عاشته البلاد في 25 يوليو/ تموز 2021، وكان من الصحافيين القلائل الذين نبّهوا إلى خطورة المرحلة، ودقّ ناقوس الخطر. وظلّ على نقده الحادّ مستنداً إلى وقائع ووثائق يستند إليها في اتهاماته بعضاً من وزراء الرئيس قيس سعيّد بالفساد. رُفِعت في حقه قضايا عديدة من هؤلاء المسؤولين، تدور حول "الإساءة إلى الغير"، وصدرت أحكام قضائية في شأنه، وظلّ رهينة السجن ما يناهز سنةً، يرى بوغلّاب، والعديد من أصدقائه، أنها أحكام انتقامية، تعاقبه على صوته الحرّ، الذي ظلّ رافضاً الانقلاب، ولا يري فيه تحوّلاً جذرياً، أو تصحيحاً للمسار، كما يدّعي أنصار الرئيس.
أثارت هذه الإفراجات المؤقّتة عن هؤلاء ردّات فعل وأسئلة؛ فإذا كان الاستبشار هو ما طغى من أحاسيسَ ومشاعرَ عبّر عنها طيف واسع من النشطاء الحقوقيين، والمنظّمات، علاوة على تدوينات وتصريحات إعلامية، فإن تأويل ذلك ظلّ محلّ انقسامٍ حادٍّ، يرى شقٌّ واسع أنها مجرّد " تنفيسات"، في ظلّ حالة الاحتقان الاجتماعي والسياسي، الذي إن لم يصل إلى حدّ الانفجار، فإن مؤشّراتٍ عديدة تنبئ بأنه مُقبل لا محالة. أمّا الشق الآخر، الذي لا يقلّ حجماً، فهو يرى أنها قد تكون بدايةً حقيقيةً لانفراج كان المقرّبون من الرئيس قد لوّحوا به في مرّات عديدة. لقد ذكر أخ الرئيس ومدير حملته الانتخابية المحامي نوفل سعيّد، مباشرةً إثر الإعلان عن فوزه في الانتخابات السابقة (أكتوبر/ تشرين الأول 2024)، أن العهدة المقبلة ستكون عهدة البناء والوحدة الوطنية، خصوصاً بعد التحوّلات الجيوسياسية المهمة التي عرفتها المنطقة؛ سقوط نظام الأسد، وصعود ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة... إلخ.
والغريب أن أنصار الرئيس لم يسعدوا بهذه الإفراجات، ورأوا فيها تنازلاً لضغوط داخلية وخارجية، مطالبين مواصلة معركة التحرّر الوطني، وتشديد القبضة الحديدية بلا هوادة.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.