إضراب المعلِّمين الفلسطينيِّين .. مجرَّد مؤشِّر

إضراب المعلِّمين الفلسطينيِّين .. مجرَّد مؤشِّر

29 ابريل 2022

(عبد عابدي)

+ الخط -

الفلسطيني الذي يناضل ضد الاحتلال، ويصمد في فلسطين، منذ عقود، هو أيضاً إنسان عاديّ، عليه مسؤوليات وواجبات، أُسَريَّة، وفردية. والسلطة الفلسطينية التي تتصدّى للتحديات الوطنية والسياسية، أو يُفترض أنها كذلك، عليها أيضاً التزامات حكومية تُجاه مواطنيها، وتُجاه موظفيها، وهذان المساران يتوازيان، ويتعايشان.

والفلسطينيون هم أيضاً جزء من العالم، يتلقَّون أزماته، ومنها الاقتصادية، كموجة الغلاء التي طاولت الحاجات الأساسية، من غذاء ومسكن وعلاج وغيرها. وفي أجدد التطورات، وعلى ذكر العلاج، أعلنت نقابة العاملين في مستشفى المقاصد الخيرية، بالقدس، توقّف عمل المستشفى، لعدم تأمين دفعة من مستحقاته على وزارة المالية الفلسطينية، لتأمين الاحتياجات الأساسية للمرضى، وتأمين الراتب الشهري، بعد انقطاعه أكثر من ثلاثة أشهر، وفيما تُوُصِّل لاحقاً إلى حلٍّ مؤقَّت، فإن الأزمة المستمرة، منذ سنوات، والمتمثلة بديون المستشفى على الحكومة، لم تُحَلّ.

وقبل موجة الغلاء، عانى الفلسطينيون، كما غيرهم، في أقطار العالم، تداعيات وباء كورونا، من إغلاقاتٍ متصلة، ومتتابعة، ومن ارتباك قطاعات الإنتاج المتعدّدة، وما ترتَّب عن ذلك من ارتفاع مستويات البطالة، وشُحّ السيولة النقدية. في هذا السياق، حدث إخلال بصرف الرواتب، وعلى مدار خمسة أشهر، لم يتقاضَ الموظفون في السلطة الفلسطينية إلا نسبة من مستحقاتهم، وهي التي قبل الاقتطاعات لم تكن كافية لمعظم الموظفين.

حدث إخلال بصرف الرواتب، وعلى مدار خمسة أشهر، لم يتقاضَ الموظفون في السلطة الفلسطينية إلا نسبة من مستحقاتهم

وقد شهدت الضفة الغربية مطالبات نقابية، وإضرابات موظفين حكوميين، منهم الأطباء، والمهندسون، والممرِّضون، والمعلمون، وهم القطاع الذي ينضوي فيه أكبر عدد من الموظفين، حيث لا يمكن أيّ أسرة فلسطينية، تقريباً، ويوميّاً، أن تنجو من تأثير إضرابهم على أبنائها، في المراحل التعليمية المختلفة، وفي شأن كبير الأهمية، وخصوصاً، بعد الضرر البالغ الذي لحق بالتحصيل العلمي، بعد الاضطرار إلى التعليم الإلكتروني، وهو الأسلوب الذي لم تثبت له، على مستوى العالم، نتائج مُرْضية، فضلًا عن أن يكون ذا كفاءة، في الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي لا تتمتَّع بخِدْمات (إنترنتية) جيّدة، بصفة عامة، هذا بالإضافة إلى عجْز غير قليل من الأُسَر عن توفير أجهزة اتصال، لجميع أبنائها، أو لبعضٍ منهم.

هذا، ويسود تقطُّع في العملية التربوية التعليمية، منذ أشهر، في مناطق معيَّنة من الضفة الغربية، وتحديداً، محافظة الخليل. وامتد الإضراب إلى سائر مدن الضفة، وقراها، حين أعلن اتحاد المعلمين الفلسطينيين تنظيم فعالياتٍ احتجاجية، في الإضراب، مدَّة محدودة، ثم أعلن إنهاء تلك الفعاليات، بعد توصُّله إلى اتفاق مع الحكومة، رآه كافياً، في هذه المرحلة.

أصبح الانسداد السياسي يُنتج تداعياتٍ مباشرة، على حياة الفلسطينيين اليومية، ومتطلباتها الأساسية

ولكنَّ قطاعاً واسعاً من المعلمين، وفي سائر المناطق الفلسطينية، شعروا بخيبة أمل، وبأنَّ "الاتحاد" قد خذلهم، أو أنه تساوَقَ مع منطق الحكومة القائم على التسويف، وغير المُلبِّي للمطالب الأكثر إلحاحاً، وهي التي تتمحور حول زيادة الراتب، ودفع المستحقَّات المتأخِّرة، واحتساب غلاء المعيشة، بأثر رجعي. وفي المجمل، بعد عدم التزام الحكومة الفلسطينية تنفيذ كامل بنود الاتفاقية التي جرى التوصُّل إليها، بعد الإضراب الذي خاضه المعلمون، عام 2016، ومن هنا، انطلق حراكٌ نقابيٌّ جديد، من وحي هذه الأزمة، أُطلق عليه "حراك المعلمين الموحَّد"، طالَب، من ضمن ما طالب، بإنهاء "الاتحاد"، واستحداث نقابة للمعلمين منتخبة، بشكل صحيح، وتمثِّل المعلمين فعلاً، وذلك أسوة بالنقابات الأخرى، كنقابتي الأطباء والمهندسين. إذ يرى معلمون كثيرون أن "الاتحاد"، وهو المسيطَر عليه من حركة فتح، ليس الأقرب إليهم، وإلى مطالبهم، بقدر اقترابه من الحكومة، وأولوياتها، والدليل على الفشل التمثيلي الملحوظ الذي أصاب الاتحاد، ما تشهده مدارس كثيرة من إضرابات واسعة النطاق، خارج إطار الاتحاد، فاتفاقُه مع الحكومة لم يعد ذا صلة، وهو نفسه، برغم دعواته المتكرِّرة إلى العودة إلى الدوام، لم يُسمَع له، وأصبحت الحكومة الفلسطينية، إنْ هي أرادت حلَّ الأزمة، مضطرّة إلى التعاطي مع هذا الجسم الجديد الذي بدأ يتشكّل، وإنْ لم يُنجَز، بعد، كإطار نقابيٍّ منتخَب، أو حتى مُعلَن، فنشاطاتُه تجري، حتى اللحظة، على مواقع التواصل الاجتماعي، "فيسبوك" تحديداً، ولم يكن الحادث الآن بلا سابقة، فقد خاض المعلمون الفلسطينيون إضراباً مماثلاً، عام 2016، واستمرّ، بفضل تماسُك المعلمين، وتضافُر الاستجابات له، عدّة أسابيع.

وكلُّ من يتاح له الاطلاع على حالة المعلمين، في الوقت الراهن، يمكنه أن يحسّ بمقادير الامتعاض، ونفاد الصبر، ولولا حدّة الأحوال، لما كان لهذا الإضراب الحالي الذي يقع خارج اتحاد المعلمين، وهو الإطار القانوني المعترَف به، أن يكون، وأن تكون الاستجابة له، على هذا النطاق الواسع، في كبريات المدن الفلسطينية، مثل الخليل ورام الله وبيت لحم وجنين، وطولكرم، وغيرها. وبرغم محاولات التخويف، بإصدار قرارات حسم أيام عمل، لولا شعور المعلمين بأنه لم يعد لهم ما يخسرونه، وأنَّ الاستمرار بهذه الرواتب التي تقادَمت، مع ارتفاع الأسعار، ومع ضعْف القوة الشرائية للعملة، أمرٌ لا يهدِّد قُوت أبنائهم فقط، بل يمسُّ بكرامتهم، وهم الذين، كما غيرهم من الموظفين، من الصعب المزايدة عليهم، وعلى تحمُّلهم، وذلك بشهادة الأمين العام لاتحاد المعلمين، سائد ارزيقات الذي قال، أخيراً، لـ"العربي الجديد"، تعقيباً على دعوة الرئيس محمود عبّاس ورئيس الحكومة محمد اشتية النقابات إلى وقف خطواتها الاحتجاجية، نظراً إلى الظروف السياسية التي تمرُّ بها القضية الفلسطينية، والأزمة المالية للسلطة الفلسطينية: "متى كان الوضع السياسي في فلسطين مستقرّاً، حتى يقال لماذا تتحرَّكون الآن؟ لقد عشنا العام الماضي، بمعظمه نحن وكافة الموظفين الحكوميين بأنصاف رواتب، ومرّت أشهر بأكملها لم نتلقَّ راتباً أصلاً، وحينها صمتنا؛ لأننا ندرك خطورة ما كان يجري، لم يصبر أحدٌ على الحكومة، كما صبر الموظَّف". ولكن ارزيقات، كما بدا لمعلمين كثيرين، لم يثبت على أحسن المواقف. وعاد، وساق الأوضاع التي تعيشها الضفة الغربية، والمواجهات مع الاحتلال، ذريعةً للقبول بوعود جديدة للحكومة، وحتى هذه الوعود لا تلبِّي المتطلَّبات الجوهرية، ولا تنعكس، حتى فيما لو نُفِّذت، كاملةً، وذلك، بداية عام 2024، فما إِنْ نصل إلى ذلك الوقت، حتى تكون المبالغ المصروفة، (إن صُرِفت)، قد تجاوزها الغلاء، وتضخُّم العُملة. علماً أن الضفة الغربية تُعَدّ من أعلى المناطق المحيطة، في مستوى المعيشة، بسبب التبعية العامة للاقتصاد الاحتلالي.

يشعر المعلمون بأنَّ الاستمرار بالرواتب التي تقادَمت، مع ارتفاع الأسعار، ومع ضعْف القوة الشرائية للعملة، لا يهدِّد قُوت أبنائهم فقط، بل يمسُّ بكرامتهم

ولا تخفى الأضرار الناجمة عن استمرار الإضراب، وخصوصاً في هذا الوقت من العام الدراسي، حيث الاستعدادات لعقد امتحان الثانوية العامة، وما يسبّبه ذلك من قلق الطلبة وأولياء أمورهم، فضلاً عن الأضرار اللاحقة بسائر الطلبة؛ فمَن الذي يتحمّل القسط الأكبر مِن المسؤولية؟

ولا تنحصر الأزمة الاقتصادية المعيشية في قطاع المعلمين، فهناك أُسَرٌ لا تتوافر، حتى على هذه "الضمانة" التوظيفية، يعاني أربابُها من البطالة، أو العمل المتقطِّع، ولا ينحصر كذلك عجز السلطة عن الوفاء بالتزاماتها، بهذا القطاع، فهناك الأُسَر المحتاجة التي تنتظر استحقاقاتها التي تقدّمها وزارة التنمية الاجتماعية، وهي مبالغ بسيطة جدّاً، لم تتقاضَ هذه المخصصات، منذ أشهر، وكذلك، كما تقدَّم، يعاني المرضى، من تداعيات هذه الأزمة. وهكذا، تتفاقم على السلطة التي نكث الاحتلال بالتزاماته السياسية تجاهها، ليس من انسداد سياسي تفاوضي، فقط، بل أصبح هذا الانسداد يُنتج تداعياتٍ مباشرة، على حياة الفلسطينيين اليومية، ومتطلباتها الأساسية.

ومع أن هذه الأحوال قد تُسكَّن، مؤقتاً، بمساعدات، أو منح خارجية، ما يعني أن السلطة قد تستفيد من هذه المؤشِّرات لتعجيل تلك المساعدات، أو ضمان استمرارها، والتي تعثَّر بعضها، كما التي تأتي من الاتحاد الأوروبي، بسبب اشتراطاته على المنهاج الفلسطيني، المدرسي.. إلا أن الفشل الجوهري الماثل في استمرار الاحتلال، وتحكُّمه بالموارد، وفي ظل استمراره في قرصنة أموال الضرائب، إضافة إلى أسئلة كثيرة عن الإدارة المالية للسلطة، ونظام الرواتب غير الخاضعة للمساءلة، والرقابة، كما بقية الميزانية، في غياب المجلس التشريعي، من شأن ذلك أن يغذِّي أحد اتجاهين، أو كليهما: الاتجاه النضالي ضدّ الاحتلال، أو الاتجاه الداخلي بتفاقُم حالات الاحتجاج، أو بتكاثُر أسباب النزاعات المحلية، بين الناس، العائدة إلى الحقوق المالية، والتنازُع عليها.