إضراب القضاة في تونس.. مطالب قطاعية أم قضية وطنية؟

إضراب القضاة في تونس .. مطالب قطاعية أم قضية وطنية؟

07 ديسمبر 2020
+ الخط -

يدخل القضاة في تونس الأسبوع الثالث من إضرابهم، على خلفية وفاة زميلة لهم، على إثر إصابتها بوباء كوفيد 19، غير أنهم يقدّمون، في معرض تبريرهم هذا الإضراب غير المسبوق، أسبابا أخرى هيكلية، على غرار ترهل البنية التحتية للمحاكم، ومرفق العدالة عموما، فضلا عن تردّي ظروفهم المعيشية: رواتب منخفضة، غياب الحوافز المادية، كثرة الملفات وساعات العمل، ويقدّمون جداول مقارنة لنظرائهم في دول عربية وأجنبية، تبيّن الفرق الكبير في مثل هده المعايير والمؤشّرات.
كانت وفاة القاضية سنية العريضي القطرة التي أفاضت الكأس، إذ يدرك الجميع أن البنية التحتية الحالية المترهّلة، ومسألة استقلالية القضاء، فضلا عن حوكمة الموارد البشرية والمادية، جميعها تنهك هذا المرفق، وتعطل إرساء دولة القانون والديمقراطية والعدالة والمساواة. لذلك، لا يمكن فهم تصعيد الحركة الاحتجاجية، والذهاب بها إلى أقصى مداها، إلا بوضعها في سياقاتها ورهاناتها العديدة. فبعد الثورة مباشرة، بدأت جمعيات حقوقية تنشر تجاوزات قضاةٍ قبلوا أن يكونوا العصا الغليظة في يد النظام السابق التي بطش ونكل بها بمعارضيه، من خلال خضوعهم لتعليماته. بل يذكر رجال أعمال، وحتى مواطنون عاديون، أن القضاة انتقموا منهم، انتصارا لخصومهم من أصهار زين العابدين بن علي، وغيرهم ممن تنفذوا في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ البلاد. همّت حكومة الترويكا باتخاذ إجراءات تأديبية في حق قضاة "فاسدين"، غير أن هياكلهم المهنية العديدة، ومنها جمعية القضاة ونقابة القضاة، واتحاد القضاة الإداريين لاحقا، تصدت لهذه الإجراءات، وعدّتها تعدّيا على استقلال القضاء، ثم تراجعت السلطة العمومية لاحقا عن اتخاذ أي إجراءات جدّية من أجل "تطهير" القضاء، وظل الحال على ما هو عليه.

يذكر رجال أعمال، وحتى مواطنون عاديون، أن القضاة انتقموا منهم، انتصارا لخصومهم من أصهار زبن علي

فساد بعض القضاة في تونس قبل الثورة استثناءً خدش العدالة، غير أن الناس كانوا يعتقدون أن الانتقال الديمقراطي الذي ستعرفه البلاد بعد الثورة سيجعلان من القضاء ركنا حصينا يؤمّن العبور نحو دولة القانون والعدالة والمساوة. ومع ذلك، بدت هذه الانتظارات، بعد عقد من الثورة، بعيدة المنال. تمت دسترة السلطة القضائية، وخصها دستور 2014 بالباب الخامس الذي احتوى عشرات الفصول التي تؤكّد استقلالية القضاء. كما تم أيضا تركيز المجلس الأعلى للقضاء، من أجل تسيير مستقل لمرفق العدالة، يتولى ترتيب المسار المهني للقضاء وتأديب المخالفين منهم، وهو يقوم سنويا بتحديد انتقالات القضاة وترقيتهم. وتم رفع يد وزارة العدل عن مسائل كثيرة ذات صلة. ولهذا تمّ سدّ باب كبير كان يتسلل منه الضغط على القضاة، وممارسة أشكال متعدّدة من الابتزاز والمساومة. وقد نص الفصل 109 من الدستور على "يحجر كل تدخل في سير القضاء".

كان التونسيون يعتقدون أن الانتقال الديمقراطي الذي ستعرفه البلاد بعد الثورة سيجعلان من القضاء ركنا حصينا يؤمّن العبور نحو دولة القانون والعدالة والمساواة

مع ذلك، تحوم ظلال عديدة من الشك والريبة بشأن جدّية تطبيق ما نص عليه الدستور، وما تطلع إليه القضاة أنفسهم وما رجاه المواطنون. طرحت قضايا عديدة هزّت الرأي العام، تعلقت بشخصياتٍ عامة، على غرار رجال أعمال وإعلاميين وسياسيين .. إلخ، أحيلوا على القضاء، على خلفية ارتكاب تجاوزاتٍ خطيرة، غير أن الأحكام التي طالتهم ظلت ملتبسة، بل تم إطلاق سراح بعضهم وتبرئتهم، غير أن المسؤولية لا تلقى على القضاة وهياكلهم وحدها، فالضغوط التي مورست عليهم لم تعد تجري في كواليس وغرف مغلقة، كما يحلو لرئيس الجمهورية، قيس سعيد، أن يذكر هذا المصطلح، فلقد رأينا النقابات الأمنية، مثلا، تحاصر المحاكم، حين يُحال أمنيون على العدالة في قضايا تعلقت بالتعذيب، على غرار محاكمات العدالة الانتقالية وغيرها من التجاوزات.. لقد تحرّش هؤلاء الأمنيون بالقضاة، و"حرّروا" زملاء لهم من قبضة "العدالة".
يبدو أن تصريحات أعلى مسؤولين في هرم القضاء في الأيام الأخيرة، وتبادل التهم فيما بينهم، عبر وسائل الإعلام، عن تبييض أموال وإرهاب، قد هزّت الثقة في سلطتهم. وأكدت، مرّة أخرى، أن ثمّة اعتلالا في القضاء التونسي، ليس في مجرّد ترهل البنية التحتية، أو الرواتب المنخفضة، أو ظروف العمل، كما يذكر القضاة، وإنما، في اعتقاد كاتب هذه السطور، في رفض القضاة أنفسهم الاستقلال بسلطتهم والاستفادة مما منحه الدستور لهم، ووهبتهم إياه الثورة. يتعلم القضاة على مدارج الجامعة أن ضميرهم بوصلتهم، وأنه لا سلطان عليهم سواه، خصوصا وقد تمت دسترة هذه الأركان في بلدٍ يبني ديمقراطيةً، ويتيح حرية الإعلام بشكل مطّرد.

تصريحات أعلى مسؤولين في هرم القضاء، وتبادل التهم في ما بينهم، عبر وسائل الإعلام، عن تبييض أموال وإرهاب، هزّت الثقة في سلطتهم

لا أحد يصدق الآن أن القضاة يخضعون خوفا من بطش السلطة بهم. والأرجح أن تنازلهم عن تطبيق القانون يتم لاعتبارات أخرى غير الخوف. لذا تظل المسؤولية أخلاقية، وهي ملقاة على القضاة وحدهم. لم يلق تحرّك القضاة تحت لافتة مطالب قطاعوية (أو قطاعية) الدعم الكافي من الرأي العام، لأنه لم يفلح في تحويل قضيتهم، على نبلها، إلى قضية رأي عام، إذ لم يشر التحرّك إلى ما يغنمه المواطن والوطن من هذه المعركة التي يخوضونها. بل هم خسروا تعاطفا كثيرا، حينما شدّدوا، في مطالبهم المرفوعة، على أولوية الرواتب وجوازات السفر الدبلوماسية... ثمة إخفاق اتصالي رافق هذا التحرك الاحتجاجي.
مات أطباء ومهندسون ومربون وقضاة في مواجهة الوباء، لكن النجاة منه وحدها لا يمكنها أن تتحوّل الى مطلب ضروري، تسنده قطاعات واسعة من الرأي العام. وحتى يتسنى ذلك، على تلك المطالب أن تندرج في قضايا نبيلة، هي فوق مصالح القطاعات والفئات المهنية... الشهداء أحيانا نقتلهم مرتين، بإهمالنا وعجزنا وإخفاقنا، وحين نرفع قمصانهم المبلّلة دماء وعرقا من أجل مصلح قطاعية ضيقة.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.