إشبيليّة .. فستان الأندلس المزركش

إشبيليّة .. فستان الأندلس المزركش

08 يوليو 2022

راقصة فلامنكو في ساحة إسبانيا في مدينة إشبيلية في الأندلس في إسبانيا (19/8/1921/Getty)

+ الخط -

حالما تصل إلى المدينة القديمة في إشبيلية، تفاجئك الأزقة الضّيقة والمعمار الذي يُشبه، إلى حدّ كبير، مدن المغرب القديمة. لكن مع فارق العناية، التي لا تقتصر على حيّ دون آخر، أو مدينة دون أخرى. بمجرّد أن تجد قدماك نفسيهما في الطريق إلى الحيّ التاريخي، الذي يضمُّ الخيرالدا والقصور الملكية، وبنايات أخرى تجمعها السّمات المعمارية نفسها، والصّلابة التي تُشعرك بالأمان، فأنتَ في حضرة تاريخٍ لا يقبل التّدليس رغم المظاهر الخادعة. أنتَ في حضرة إنسان مبدع استطاع، قبل قرون كثيرة، أن يبني بحماسٍ وهمّة وأمانة مثل هذه الصُّروح، بينما يبني الآن عماراتٍ تقع بمجرّد الانتهاء منها، أو قبل ذلك، ويتشقّق معظمها على مر السنين. بسبب هلع الرّبح والجشع اللامتناهي، صارت الحيطان، بين شقة وأخرى، هُلامية، هناك إيحاء بوجودها، لكنها لا تؤدّي المطلوب منها، وهما الحميمية والحماية.

إشبيلية جنّة الفلاح المنكوب. حيثما تذهب تستقبلك الفساتين المُزركَشة والمُكَشكَشة الملتفّة حول جسد راقصات الفلامينكو في السّاحات والمطاعم والمقاهي. لا تتوقّف الحفلات التي تحتفي إلى نهاية الزمن، بأشجان الفلّاح المنكوب، وهو أصل تسمية الفلامينكو حسب بعض الروايات. الفلاح الأندلسي الذي طحنته الآلات الجهنميّة لمحاكم التفتيش، أبشع ما ارتكبته البشرية في العصر ما بعد الحجري. رغم أنّ روايات أخرى تُرجع تسمية الفلامينكو، الذي نشأ في القرن الثامن عشر، إلى أصولٍ أخرى، لكنها تُجمع على التأثير الأندلسي والموسيقى العربية عليه، سواء في طريقة الغناء من الحُنجرة، أو في غيتار الفلامينكو وتأثره بالعود، ولعله أخذ بعض رقصاته من الغجر الذين تشارك معهم الموريسكيون مرارة الإقصاء، بعد نهاية العصر الإسلامي في الأندلس.

المُدهش في الجنوب الإسباني هو توازي العمارة الحديثة مع تلك القديمة. تُبهجكَ عمارات كثيرة، تصميمها فيه كثير من الإبداع والجمال، بعض منها جديد نسبيّا (القرن العشرون). استوحى كثير منها المعمار الأندلسي، واستطاع موازاة البنايات التاريخية في الجمال والإتقان والصلابة. مثل ساحة إسبانيا، التي يجعلك جمالها وامتدادها والطابع الأندلسي العظيم لكل جزء منها، تظن لحظة أنه معلمة قادمة من عهد المعتمد بن عباد. لكنه بُني من أجل المعرض الإيبيري - الأميركي عام 1929.

يمثل الزلّيج، إحدى الخصائص المبدعة في تصميم القصور والمنازل في المغرب والأندلس، حيث تفنّن الأندلسيون في استعماله في الهندسة الداخلية لبنايات كثيرة حديثة في أشكال وصيغ حديثة، منحته أبعاداً وحياة أخرى. فيما لا تنفكّ الأقواس عن إدهاشك، رغم أنها لا تنتسب لفن دون آخر، ولا لطراز هندسي دون آخر، فتجدها في الجوامع كما تجدها في الكاتدرائيات في العالم بأسره. لكن الطراز الأندلسي يقوم عليها ضمن عناصره الجوهرية، فحتى المنازل في المغرب، وإلى حد قريب، كانت كلها تضم أقواسا تفصل بين الصالون ومدخل البيت. بينما تسترجع القبب الطراز القوطي بشكل خفيف، لتمنح بلازا إسبانيا المظهر الفريد الذي يجعلها تختلف عن باقي المعالم ذات الطابع الأندلسي.

يذكّرني المهندسون صانعو إشبيلية، منذ أول لبنة، بفيلم City of Ember الذي تدور أحداثه حول إنشاء مجموعة من العلماء مدينة سكنية متكاملة تحت الأرض لإنقاذ الجنس البشري من الفناء، عندما تصبح الأرض غير صالحة للحياة، محذّرين الأجيال القادمة من وباءٍ ينتشر على سطح الأرض، قضى على البشرية. لكن مهندسي إشبيلية حاولوا القضاء على داء القبح، الذي يترافق مع ازدياد المقيمين في أي مدينةٍ حديثة، من دون أن يضعوا في الحسبان إمكانية القطيعة مع العالم. المدينة تحيط بها مدن أخرى تقترب من جمالها، ثم إن لها في نفسها كثيرا مما يخفي قبح الإنسان ويلجأ إلى جمال إنسان آخر. لم يكتفوا بما ورثوه بل حوّلوا المدينة إلى تحفة هندسية تقف بجلال وجمال كأنّها هناك منذ مهد البشرية.

شهدت إشبيلية فظائع كثيرة، لكنها أصرّت على أن تكون بلسماً من الجمال والسلام اللذين يحتضنان الروح الجريحة للإنسانية. هي مدينة الشّعراء من المعتمد بن عباد الأندلسي، الذي ولد وعاش في قصر أميراً وملكاً، ومات معدوماً في قلعة أغمات قرب مراكش، إلى الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو، المولود في قصر Casa de Alba de Tormes.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج