إسرائيل وسقوط النظام السوري بين التهديدات والفرص

09 ديسمبر 2024

دبابات إسرائيلية عند الحدود السورية قرب مجدل شمس في مرتفعات الجولان (8/2/2024 فرانس برس)

+ الخط -

أثارت عملية ردع العدوان في سورية ونجاحاتها السريعة، وانهيار الجيش السوري، ثم سقوط نظام بشّار الأسد، قلقاً كبيراً في دولة الاحتلال عكسه عقد اجتماعات متتابعة، وإجراءات عسكرية متلاحقة، فخلال الأيام الماضية أجّل مجلس الوزراء اجتماعاً كان مقرّراً له مناقشة الصفقة المقترحة حول قضية الأسرى الإسرائيليين في غزّة، لانشغال المجلس الوزاري المصغّر في مناقشة التطوّرات في سورية التي أصبحت أولويةً قصوى لإسرائيل في الوقت الحالي، وعُقِدت اجتماعات متوالية للمجلس الوزاري المصغّر الذي اجتمع، بحسب صحيفة يسرائيل هيوم، في ليلتي الجمعة والسبت، مع توقّع اجتماعات أخرى لاحقة. إلى جانب ذلك، قرّر الجيش زيادة قواته في الجولان المحتل، وإرسال تعزيزاتٍ برّية وجوية إلى الفرقة 210 التي تسيطر على الحدود مع سورية، حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة، ولمنع أيّ احتمالية للتسلّل إلى مستوطناتها هناك.
وأمام المستجدّات التي تسارعت، وجدت إسرائيل نفسها بين متناقضين؛ أولهما أن المعركة في سورية، بحسب الصحافي في يسرائيل هيوم، يوسي منشروف، أتت في وقت غير مناسب على الإطلاق لمحور المقاومة، وتضعف حزب الله وإيران، وتهدّد منطقة القصير القريبة من الحدود اللبنانية، وهي مدينة استراتيجية في ما يخص حزب الله، لكن من ناحية أخرى تخشى إسرائيل، في الوقت نفسه، من أيديولوجيا قوى المعارضة التي سيطرت على سورية، ويغلب على قيادتها الطابع الجهادي، بحسب لفظ منشروف، والتي يصعب توقّع موقفها المستقبلي تجاه مرتفعات الجولان، ومن ثم احتمالية انتقال التوتّر في المستقبل إلى هذه المنطقة.

أصبحت التطوّرات في سورية أولويةً قصوى لإسرائيل في الوقت الحالي

كان معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب قد نشر مقالاً في 2 ديسمبر/ كانون الأول الحالي عن دلالات الهجوم المفاجئ للمعارضة السورية، ومآلاته المحتملة على إسرائيل، ورأى المقال الذي كتبه باحثون في المعهد، أن تركيا هي من أعطت الضوء الأخضر لقوى المعارضة المسلّحة، فضلاً عن تقديمها دعماً عسكرياً ولوجستياً واقتصادياً لفرض شروطها على الدول المتدخّلة في سورية، وتقليص المناطق التي تسيطر عليها قوى كردية مدعومة أميركياً، ومناوئة لأنقرة في الشمال الشرقي لسورية، علاوة على رغبتها في حلّ مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا البالغ عددهم 3.5 ملايين لاجئ. كذلك استغلّت قوى المعارضة السورية حالةَ الضعف والارتباك التي مرّت بها إيران، وبقيّة المليشيات الشيعية التابعة لها في المنطقة، وتراجع أعداد عناصر حزب الله في سورية نتيجة العدوان الذي شنّته إسرائيل على الحزب في لبنان، واغتيال كثير من القادة الإيرانيين في سورية عبر غارات إسرائيلية طاولت مواقعهم هناك.
غير أن القراءة الإسرائيلية للموقف التركي رأت أن ما يقوم به النظام التركي مقامرةٌ، لأن استمرار الصراع قد يؤدّي إلى تدفّق مزيد من اللاجئين إلى تركيا بدلاً من خفض أعدادهم، ورجّحت هذ القراءة أن يؤدّي تزايد قوة الجهاديين في سورية إلى تعزيز الوجود الأميركي، وتمدّد القوات الكردية، وليس العكس. أمّا ما يخص إسرائيل فسارت التوقّعات في اتجاهين متناقضين. فمن ناحية، لا يمكن إنكار أن سقوط الأسد يعدّ ضربة قاسية لإيران ووكلائها، فضلاً عن روسيا، كما أنها (أي إيران) ستسحب ما تبقّى من قواتها من البلاد، يضاف إلى ذلك قطع طرق إمداد حزب الله، فضلاً عن أن وجود نظام سوري جديد مناهض لإيران يمثّل تهديداً مباشراً للمليشيات الشيعية في العراق، وهذا كلّه يعني أن تركز إيران على أمنها المباشر، وتصبح منشغلة عن إسرائيل. وفي الناحية المقابلة، ثمة مخاطر تخشاها إسرائيل؛ إذ ستضع سيطرة جماعات جهادية على سورية تحت أيديهم مخزونات كبيرة من الأسلحة؛ منها طائرات مقاتلة؛ خاصّة أن المعارضة السورية استولت على عدة مطارات عسكرية، فضلاً عن الأسلحة الكيميائية، ما يمثّل تهديداً خطيراً لإسرائيل. ولهذه الأسباب، أعلنت إسرائيل التي قصف مقاتلاتها بعض مخازن الأسلحة الكيميائية في سورية، ربما تزيد من هذه الضربات في الفترة المقبلة.
بمعنى آخر؛ لم يكن النظام السوري هو نفسه مصدر القلق لإسرائيل، بل ارتباطاته بالنظام الإيراني وحزب الله، فقبل الثورة، لم تكن سورية تمثّل تهديداً لإسرائيل، ولم يكن النظام يردّ على أيّ هجمات إسرائيلية على الإطلاق، وتعمّق هذا أكثر بعد سبّب النظام السوري عسكرة الثورة واندلاع الحرب بين النظام والمعارضة. ومن ثم، تخشى إسرائيل، وإن كانت تحقّق فوائد من سقوط النظام هناك، فإنها تخشى من الاحتمالات المجهولة المقبلة، فكان الاختيار لديها بين عدو ضعيف معروف وعدو محتمل مجهول تقوده قوات ذات أيديولوجيا إسلامية. وهذا العدو الجديد، وإن كان محكوماً في الوقت الحالي بحسابات الداعمين له، قد يسعى مستقبلاً إلى بناء قوته والتفكير في تحرير الجولان المحتلّ، التي كانت خارج حسابات النظام.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن بعض المؤثّرين من اليمين الصهيوني حاولوا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تقديم تصور عن المعضلة التي تواجهها إسرائيل في الاختيار بين نظام الأسد المعروف جيّداً لإسرائيل، وقوات المعارضة ذات الصبغة الإسلامية، أو "داعش" كما سمّاها بعضهم، وهؤلاء اعتبروا أن الإجابة عن ذلك ترتبط فيما إذا كانت إسرائيل تريد أن يتكرّر ما حدث في 7 أكتوبر (2023) على يد حركة حماس، أم تريد عدم تكراره بالإبقاء على نظام الأسد، بمعنى أن بقاء النظام السوري كان أفضل بكثير لإسرائيل من رحيله بيد المعارضة الحالية. وطالبت بعض الأصوات أن تؤسّس إسرائيل "سايكس بيكو" جديدة، وأن توسّع من وجودها في سورية عبر احتلال أجزاء جديدة في المناطق المجاورة للجولان المحتلّ. وينطلق أصحاب هذه الدعوات من فكرة أن قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المدعومة أميركيا، توسّع مكاسبها في شرق سورية، فلماذا لا تفعل إسرائيل الشيء نفسه من أجل خلق منطقة عازلة توفّر الحماية للجولان المحتلّ. ما طرحه هؤلاء المؤثّرون في صفحات التواصل الاجتماعي عبّرت عنه بوضوح صحيفة سروجيم، المنتمية إلى الصهيونية الدينية، من خلال تساؤلها عما إذا كان ما يجري في سورية يمكن أن يقود إلى "شرق أوسط جديد".

قد تشكل إسرائيل تهديداً للمعارضة السورية فتحتلّ إسرائيل شريطاً جديداً محاذياً للجولان، متذرعة بأنه تكتيك دفاعي لحماية حدودها

يتقاطع ما كتبه هؤلاء المؤثّرون مع مقال نشرته صحيفة معاريف (نشر في 6 ديسمبر/ كانون الأول الحالي)، لمقدّم سابق في الجيش الصهيوني، تحت عنوان "الحلّ الإسرائيلي الوحيد غير المطروح بعد دراما الأحداث في سورية"، تحدث فيه عن أن الأصل في الانقلابات العسكرية في القرن العشرين أن يكون التغيير فيها مقصوراً على الرأس فقط، أو الأسرة الحاكمة، والحفاظ دائماً على بنية الدولة ومؤسّساتها، لكن ما يحدث في سورية هذه المرّة مختلف؛ حيث يُغيّر كلّ شيء، وهو ما لم يحدث منذ اتفاق سايكس بيكو عام 1916، بل لا يستبعد أن تذهب الثورة السورية ذات الأجندة الإسلامية "الداعشية"، بحسب لفظه، إلى أبعد من حدود سورية. ويرى الكاتب أن مصالح إسرائيل تتمثّل في خلق واقع جديد في الشرق الأوسط يتضمّن إخراج إيران من سورية ولبنان نهائياً، ومنع قيام دولة إسلامية متطرّفة في حدود إسرائيل، تمتلك أسلحة كيميائية موروثة عن النظام السوري، ومنع تسلّل المسلّحين إلى إسرائيل.
أمام هذه التحدّيات قد تحتلّ إسرائيل شريطاً جديداً محاذياً لهضبة الجولان، وتتذرّع بأن ما تفعله تكتيك دفاعي لحماية حدودها وتقنع الأميركيين بذلك. وما حقّقته المعارضة السورية، يثير مخاوف أخرى كبيرة وحقيقية لإسرائيل في حال عدم تقيّدها برغبة الداعمين لها، ويمكن أن لا يهدف تعزيز قوات الاحتلال في الحدود مع سورية إلى تأمين الحدود فحسب، بل لا يستبعد أن يتحول تهديداً جدّياً للمعارضة السورية.

أحمد الجندي
أحمد الجندي
كاتب مصري، أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة، له كتب ودراسات حول الملل اليهودية المعاصرة وأيديولوجيا تفسير العهد القديم.