إسرائيل تراهن على شباب اليمين الأميركي... من مجموعات الضغط إلى "الريلز" و"الستوريز"

29 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 03:04 (توقيت القدس)

متظاهرون داعمون لفلسطين عند مقر الكونغرس الأميركي في واشنطن (24/9/2025 الأناضول)

+ الخط -

منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، منعت السلطات الإسرائيلية الصحافة الدولية المستقلة من دخول القطاع، لكنّها في المقابل دعت مجموعة من مؤثّري منصّات التواصل الاجتماعي، من المعروفين بولائهم إلى التيار اليميني الأميركي، إلى جولات نُظّمت بعناية في مشارف القطاع. ولم يكن اختيار هؤلاء المؤثّرين اعتباطاً، فهم يمثّلون شريحةً من شباب الحزب الجمهوري المتديّن والقومي المرتبط بحركة "اجعل أميركا عظيمة مجدّداً" (MAGA)، في وقت تفيد استطلاعات الرأي بأن أبناء جيلهم من المحافظين أقلّ انحيازاً إلى إسرائيل مقارنةً بجيل آبائهم في الحزب الجمهوري، ما دفع إسرائيل إلى محاولة إعادة تشكيل سردية الحرب لديهم.
في أواخر أغسطس/ آب الماضي، ظهر المؤثّر اليميني كزافيير دوروسو مثلاً في مقطع مصوّر أمام ما قال إنه مركز لتوزيع المساعدات في غزّة، مرتدياً خوذةً وسترةً واقيةً، وخلفه منصّات تحمل مواد إغاثية. في الفيديو علّق قائلاً: "هذه المساعدات ستبقى هنا لتفسد ويتم نهبها... كيف يكون ذلك ذنب إسرائيل؟". وهو يحاول بذلك إعفاء إسرائيل من سياسة التجويع التي يعيش على وقعها قطاع غزّة وتحميل مسؤوليتها لجهات أخرى "يفترض أن توزّع هذه المساعدات" مثل الأمم المتحدة على سبيل المثال.
لم يكن الأمر مفاجئاً عندما كشفت مجلة Wired أن رحلة دوروسو وزملائه إلى إسرائيل ومشارف غزّة جرت بتمويل وترتيب مباشر من وزارة الخارجية الإسرائيلية عبر منظّمة تدعى Israel365 التي تعرّف نفسها بأنها "مؤيدة للاستيطان وتهدف إلى تعزيز الدعم الإنجيلي لإسرائيل"، وتؤمن بـ"حقّ الشعب اليهودي الربّاني في أرض إسرائيل كاملة"، وترفض حلّ الدولتين باعتباره "وهماً".
هذه المنظمة نفسها هي التي موّلت سفر 16 من صانعي المحتوى المحسوبين على تيار MAGA، إذ بلغت قيمة العقد المباشر مع المنظّمة ما لا يقل عن 70 ألف دولار لتغطية نفقات سفر هؤلاء المؤثّرين وإقامتهم ومن دون طرح مناقصة. وقد شمل برنامج الرحلة زيارة مواقع تعتبرها إسرائيل إنسانية (مثل منصّة المساعدات عند معبر كرم أبو سالم) إضافة إلى مواقع ذات بعد سياسي وديني مثل حائط البراق في القدس المحتلة، ومرتفعات الجولان المحتلة، والضفة الغربية، وحتى الحدود مع سورية، حيث قُدّمت لهم إجازات عسكرية.

أبدى ثلث الأميركيين الشباب تحت سن 30 تعاطفهم بالكامل أو غالباً مع الفلسطينيين

ووفق صحيفة هآرتس العبرية، برّرت الخارجية الإسرائيلية منح العقد من دون مناقصة لمنظمة Israel365 بسبب "موقعها الفريد الذي يتيح تمرير خطاب مؤيد لإسرائيل يتماشى بالكامل مع أجندة MAGA و"أميركا أولاً"، بل إن هذه الرحلة ليست سوى البداية، فالخارجية الإسرائيلية وفقاً للمصدر نفسه تخطط لتنظيم رحلات لـ 550 وفداً من المؤثرين لزيارة إسرائيل بحلول نهاية العام، وهو رقم يعكس مدى الرهان الإسرائيلي على هذه الزيارات الموجهة.كا
هؤلاء "المؤثرون" حريصون على تأكيدِ أنّ "أحداً لم يملِ عليهم ما ينشرون"، لكن الحقيقة التي لا ينكرها أحد أن الغرض الحقيقي من دعوتهم لم يكن السياحة أو الاطلاع الحرّ، وإنما ترويج الرواية الإسرائيلية المباشر بشأن ما يجري في غزّة أمام جمهور أميركي محدد. لذلك لم يُترك شيء للمصادفة أو لهوى الضيوف؛ بل تولى الجيش الإسرائيلي نفسه تنسيق الجزء الأكبر من الجولة. فقد اصطحب الجنود المؤثرين بلباسهم العسكري إلى منصّة المساعدات عند معبر كرم أبو سالم في حدود غزّة، وهناك شرح متحدّث باسم الجيش أمام الكاميرات كيف أن الشاحنات المحمّلة بالإغاثة متكدّسة تنتظر، وأن الأمم المتحدة هي من تتقاعس عن تسلّمها وتوزيعها.
زلزال جيلي داخل MAGA
ليس الاستعانة بالمؤثّرين في الصراع جديداً عند إسرائيل، فقد نظّمت وزارة شؤون الشتات ومكافحة معاداة السامية الإسرائيلية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 جولةً خاصّةً لمؤثّرين من أنحاء العالم (مجموع متابعيهم 30 مليوناً)، بهدف تعزيز الرواية الإسرائيلية عالمياً. ونقلت صحيفة لوموند حينها عن إيدو دانيال، مدير الاستراتيجية الرقمية في الوزارة، قوله إن "هذه معركة لا تقل أهمية عن المعارك الأخرى على الرأي العام، ولا بديل فيها من منظورنا عن المؤثرين" في كسب العقول والقلوب. تدرك إسرائيل حاجتها إلى هذه الأدوات الحديثة في التواصل، خصوصاً أن أرقام الاستطلاعات أخيراً ليست في صالحها على المدى البعيد في ما يتعلّق بتعاطف الأجيال الشابة في الغرب.
وفقاً لاستطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث في إبريل/ نيسان 2024، أبدى ثلث الأميركيين الشباب تحت سن 30 تعاطفهم بالكامل أو غالباً مع الفلسطينيين، مقابل 14% فقط قالوا إن تعاطفهم بالكامل أو غالباً مع الإسرائيليين، بل إن 60% من هذه الفئة العمرية عبّروا عن نظرة إيجابية تجاه الشعب الفلسطيني، مقابل 46% منهم فقط لديهم نظرة إيجابية تجاه الشعب الإسرائيلي. والأهم أن النظرة الإيجابية لإسرائيل بين الشباب تراجعت بحِدّة في السنوات الماضية، فقد انخفضت نسبة من لديهم رأي إيجابي تجاه الإسرائيليين بمقدار 17 نقطة مئوية منذ عام 2019.
هذا التحول الجيلي الكبير هو ما وصفته مجلة نيوزويك بأنه "زلزال جيلي داخل معسكر MAGA"، حيث لم يعد الدعم لإسرائيل أمراً مفروغاً منه، حتى في أوساط شباب اليمين الأميركي. ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك هو ظهور أصوات يمينية مؤثرة تنتقد صراحةً ما يجري في غزّة.
في برنامج تاكر كارلسون، أتاح الإعلامي المحافظ منصّةً لعدة أكاديميين ومحلّلين وصفوا العمليات الإسرائيلية في غزّة بأنها "إبادة جماعية"، وهو ما منح هذا التوصيف حضوراً واسعاً بين جمهور يميني لم يكن معتاداً على سماعه من قبل. كما تبنّت المعلّقة كانديس أوينز مواقف مماثلة، فيما ذهبت النائبة الجمهورية مارغوري تايلور غرين خطوة أبعد، إذ أصبحت في يوليو/ تموز الماضي (2025) أول عضو في الكونغرس من الحزب الجمهوري يصف علناً ما تفعله إسرائيل في غزّة بأنه "إبادة جماعية"، وهو ما عُدّ قطيعة واضحة مع الموقف الجمهوري التقليدي.
ولم تتوقّف هذه الشخصيات عند النقد الخطابي، لكنها شكّكت أيضاً في جدوى استمرار ضخ مليارات الدولارات سنوياً لصالح إسرائيل في وقت يعاني فيه المواطن الأميركي ضغوطاً اقتصادية وديوناً ومشكلات داخلية خانقة. هذا الخطاب ضمن تيار "أميركا أولاً" يرى أن "كل دولار يذهب لحرب في الخارج هو انتقاص من أولويات الداخل الأميركي"، وهو ما ينذر بإعادة صياغة محتملة لعلاقة القاعدة الجمهورية مع إسرائيل مستقبلاً.

لا يمكن لفيديوهات المؤثرين أن تغطّي فجوةً سياسيةً وأخلاقيةً تتسع بين إسرائيل وجيل أميركي يرى غزّة بعينه

من اللوبي إلى المؤثّر... ارتداد الصورة
على مدى عقود، اعتمدت إسرائيل في حشد الدعم بواشنطن على طرق تقليدية: اللوبيات القوية (أيباك مثلاً)، والجماعات المسيحية الإنجيلية، والعلاقات مع أعضاء الكونغرس من الحزبين. أمّا في عصر الشبكات الاجتماعية، فتجد إسرائيل نفسها في حاجة أكثر إلى صنّاع محتوى شباب، لا يضطرّون إلى تقديم إفصاحات قانونية كالتي تُفرض على جماعات الضغط المسجلة.
هذه المساحة الرمادية بين الدعاية المدفوعة والاستقلالية الظاهرية هي ما جعلت المؤثرين سلعة ثمينة في ميزان الدبلوماسية العامة. فهؤلاء الشباب يعملون سفراءَ غير رسميين، يحملون رسالة دولة أجنبية إلى الجمهور الأميركي مباشرة عبر البثّ الحيّ والتدوينات، ومع ذلك لا يخضعون لأيّ قواعد تنظيمية واضحة مثل تلك التي تخضع لها مجموعات الضغط المصرّح لها.
تعرف إسرائيل جيداً أن تأثير عشرات ملايين المشاهدات في وسائل التواصل لا يغيّر بالضرورة الحقائق في الأرض، فصورة غزّة في الإعلام الغربي تزداد قتامة يوماً بعد يوم، مع تواصل القصف وسقوط الضحايا المدنيين، وإعلان هيئات دولية وصول مناطق من القطاع إلى حافّة المجاعة. وقد أظهر استطلاع آخر لمركز بيو للأبحاث في إبريل/ نيسان 2025 أن 53% من البالغين الأميركيين لديهم نظرة سلبية تجاه إسرائيل، وهي نسبة مرتفعة عن 42% كانوا يحملون نظرة سلبية في عام 2022 قبل الحرب. كما كشف استطلاع لمؤسّسة غالوب في يوليو/ تموز الماضي (2025) أن 32% فقط من الأميركيين يؤيّدون العمل العسكري الإسرائيلي في غزّة، بينما أعربت الغالبية (60%) عن معارضتها له، وهي أدنى نسبة تأييد لإسرائيل سجلتها "غالوب" منذ بدأت قياس الرأي حول حرب غزّة للمرّة الأولى في نوفمبر 2023.
كما بيّن الاستطلاع نفسه أن الفجوة الحزبية في أميركا باتت صارخة. فبينما لا يزال 71% من الجمهوريين يساندون عمليات إسرائيل العسكرية، لم يؤيّدها سوى 8% فقط من الديمقراطيين، وهي هوّة غير مسبوقة في الانقسام حول إسرائيل داخل الولايات المتحدة. وترى إسرائيل أنها إذا كانت تخسر تعاطف بعض الدوائر (كالحرم الجامعي والمنظمات الحقوقية وحتى قطاعات من الإعلام الغربي)، فلا يزال لديها ظهير قوي بين جمهور MAGA المحافظ، الذي قد يتسلم دفة الحزب الجمهوري في المستقبل القريب.
لذا تراهن الدبلوماسية الإسرائيلية على أنه بضمان ولاء القاعدة الجمهورية الشابة، ربّما تعوّض الخسارة المتزايدة في دوائر تقدمية وليبرالية أخرى من الرأي العام الأميركي. علماً أن صنّاع القرار في تل أبيب يدركون أن المزاج الشعبي الأميركي يميل ببطء ولكن بثبات نحو الانتقاد، لكنهم يعوّلون على إبقاء العلاقة مع واشنطن وثيقة عبر الحزب الجمهوري على الأقلّ. لكن الأمور لا تسير دائماً وفق ما خطّط له صنّاع هذه الدبلوماسية الجديدة، إذ شهدنا بعض الحالات التي ارتدّت فيها الصورة سلباً على أصحابها، كما حصل مع ظهور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في يوليو/ تموز 2025 في بودكاست مجموعة The NELK Boys (وهم من مشاهير يوتيوب بين الشباب الأميركي الذكور الذين عادةً لا يتابعون الأخبار التقليدية)، إذ تحوّل مادّةً للسخرية والانتقاد من اليمين واليسار معاً.
فخلال المقابلة، طرح مقدّمو البرنامج أسئلة سطحية وخفيفة على نتنياهو، بينما كانت مشاهد الأطفال الجوعى تحت القصف في غزة تملأ الأخبار. وانتشرت مقاطع من اللقاء على الإنترنت تجتذب سيلاً من التعليقات الغاضبة، تتهم الفريق بتلميع صورة نتنياهو والتقليل من مأساة غزة. ونتيجة لهذا الضغط، خسر بعض هؤلاء المؤثرين جزءاً من مصداقيتهم وأكثر من 20 ألف مشترك مباشرة بعد المقابلة.
مغرٍ لكنّه هشّ
تكشف تجربة استقطاب المؤثّرين من شباب اليمين الأميركي أن الدبلوماسية لم تعد حبيسة القاعات، ولا رهينة بيانات وزراء الخارجية. خرجت إلى فضاءات سائلة وسريعة، حيث تختلط السياسة بالترفيه، والدعاية بالقصص الشخصية، والخطاب الرسمي بمقاطع لا تتجاوز نصف دقيقة. هل نجحت في رهانها هذا؟... ليس تماماً!
استطلاعات الرأي تبدو صادمة للقائمين على الدبلوماسية العامة الإسرائيلية ولمناصريها. فالنمط الجديد على إغرائه يبدو هشّاً بطبيعته. فهو يمنح ملايين المشاهدات الفورية، لكنّه لا يضمن تعاطفاً طويل الأمد ولا يبدّل الاتجاهات العميقة في الرأي العام، خصوصاً بين جيل شاب صار أكثر ميلاً إلى التشكيك والرفض. ومن هنا تتسع دائرة ارتداد الرواية. علاوة على ذلك، أنّ الصور القادمة من غزّة والبشاعات التي يرتكبها الاحتلال جعلت من الصعب على كل محاولة تواصلية تخفيف وطأتها في ذهن المتابعين من غير المتبنّين سلفاً الأيديولوجيات العنصرية بتشكيلاتها المختلفة.

زلزال جيلي يهزّ معسكر MAGA مع تراجع تأييد شباب اليمين لإسرائيل

والأرقام هنا تعطي فكرة عن الفشل الكبير لإسرائيل في حرب الرواية رغم كل ما أنفقت. في هوليوود مثلاً، وقّع أكثر من 1800 ممثل وصانع سينما، بينهم أوليفيا كولمان وإيما ستون ومارك رَفّالو، عريضة لمقاطعة المؤسّسات السينمائية الإسرائيلية. وظهرت حملات فنية مثل Artists4Ceasefire وTogether for Palestine بمشاركة نجوم كبار من بيللي آيليش إلى خواكين فينيكس وبيندكت كامبرباتش وريتشارد غير. كما برزت منصات مثل Entertainment Labor for Palestine تضمّ أعضاء من نقابات مهنية فنّية كبرى تطالب بوقف النار وتدعم حملات سحب الاستثمارات.
وفي أوروبا، ثمّة موجة اعترافات في عزّ الحرب بدولة فلسطين (إسبانيا وإيرلندا والنروج...) ويتوقّع أن تتبعها فرنسا ودول أخرى خلال الأيام المقبلة. أمّا في الشوارع، فصارت المظاهرات الأسبوعية المؤيدة لفلسطين مشهداً دائماً في لندن ومدن أوروبية أخرى، بينما تحوّلت الجامعات الأميركية إلى جبهة مواجهة منذ اعتصام كولومبيا في إبريل 2024، وصولاً إلى أكثر من 180 حرماً جامعياً حول العالم. وفي لاهاي وضعت محكمة العدل الدولية إسرائيل تحت المجهر حين قبلت قضية "منع الإبادة" وفرضت تدابير مؤقتة عليها، لتسقط آخر أوراق الحصانة عن خطاب "المظلومية" الذي اعتمدته إسرائيل لعقود.
هذه الارتدادات تكشف أن إسرائيل قد تنجح في اجتذاب الانتباه عبر مقاطع المؤثّرين، لكنها تخسر روايتها التاريخية في ساحات أوسع لم تعد ترى فيها الضحية، وإنما القوة المحاصِرة التي تمارس الإبادة الجماعية والتجويع.
ومهما ارتفعت نسب المشاهدة في "تيك توك"، فلا يمكن لفيديو قصير أن يغطّي فجوةً سياسيةً وأخلاقيةً تتسع يوماً بعد يوم بين إسرائيل وجيل أميركي يرى غزّة بعينه، لا بعين المؤثّرين.