إدغار موران وما يشبه السيرة
في كتابه "درس قرن من الحياة" (نقله إلى العربية خليد كدري، صفحة سبعة للنشر والتوزيع، الجبيل 2022)، يطوف إدغار موران في ثمانين سنة بخفّة كاتب ومفكر ومناضل وصاحب نظرية في المنهج، استمتع بالحياة وابتعد عن الشرور قدر الإمكان، محتمياً خلال هذه السنوات كلّها بالأخوّة الإنسانية، وأرض الكوكب، مبتعداً عن كلّ ما هو ضدّ الإنسان أو لونه أو معتقده.
ثمانون سنة، ستون منها في القرن العشرين، والبقية في القرن الحالي، كيف خرج هذا المفكر سالماً حتى تجاوز المائة سنة بسنوات قليلة (متّعه الله بالصحة وسلامة العقل). أخذ في كتابه من شعرية الحياة ووهجها ونبضها وترك الضغينة هناك للمتربّصين. ابتعد قدر الإمكان عن "كليشيهات" الفلسفة واللغة العلمية المتعالية، واكتفى بالزحف في كتابه بخفّة من يمرّ على سنوات عمله الفكري الثمانين مرتحلاً، أحبّ وأخطأ وأصاب وعشق، وما زال يحلم بغد إنساني يعمّ الكوكب، حتى إن اعتبر ذلك من الأمور المستحيلة الآن، بعد الدخول إلى الهمجيّة المعاصرة بالتقنية والفردية والتصنيع الزراعي، ومحاولة التهام الكوكب في غيبة الآخرين أو نومهم أو ضعفهم.
"أستخلص من هذه السنوات درساً مفاده أن التقدّم الاقتصادي والتقني قد يتضمّن تراجعاً سياسياً وحضارياً، وهو الأمر الذي ما فتئ في نظري يزداد وضوحاً في القرن الحادي والعشرين"، فالعلم بلا ضمير كما يقول موران، ليس سوى خراب النفس، بل يقرّر ما هو أخطر من خراب النفس حينما يقول "إن أكبر الدروس التي استفدتها من تجاربي هو أن عودة الهمجيّة ممكنة دائماً".
ولا يخفي موران أو يداري تناقضات الحياة، بل اعتبر ذلك من قوانين الحياة والعيش معاً: "يغمرني حبّ الحياة أحياناً، يا للجمال، يا للانسجام، يا للوحدة العميقة"، لكن في أحيان أخرى "يغمرني الشعور بقساوة الحياة، وبواقع الحاجة إلى القتل من أجل العيش، وبطاقة الحياة المدمّرة".
هكذا تتراوح الحياة والعالم أيضاً لدى موارن بين الجمال والقسوة، ورغم اعتماده منهج الشكّ في الوصول إلى المعرفة أو حتى في التعامل مع الحياة وقسوتها، إلا أن الشكّ لا يظلّ أبداً عكّازه أو معول هدمه الدائم، بل هو الشكّ الذي يتم تجاوزه من أجل الوصول إلى الثقة بالمعرفة أو ما لدينا من فيضها: "إذا كنتُ مقتنعاً بأن جاري يتجسّس عليّ، فسأفسّر كلّ تصرفاته بأنها أدلّة على تجسّسه"، ورغم أن موران لم يكن طيلة عمره من مدمني العزلة أو من المتغزّلين في نتائجها، إلا أنه يقرّر في فصل من الكتاب "إن الدرس الذي أستخلصه من ذلك أنه لا مناص من الرضا بالعزلة والزيغ حين تكون حقيقة الأمور وشرف الإنسان على المحك، يجدر بنا أن نتعلم كيف نتحمّل سوء الفهم، وألا نستسلم للُّعان والهذيان والأحقاد".
ساعة كتابته "درس قرن من الحياة"، كان قد جاوز المائة سنة، وتعب بعدما جمعته المحبّة بتلك الجزائرية من أصول فرنسية (صباح)، التي كانت سنده وملاذه بعدما أوشكت رحلته على نهايتها بعد قرن وسنوات قليلة. كان موران قد فرّ بأعجوبة من مصائب قرن كامل من الحروب، حينما اضطرته فظائع الحرب العالمية الثانية للفرار إلى باريس من النازية، وشهد قتل 75 مليوناً من بني البشر، علاوة على أكثر من ذلك من الجرحى والأرامل، كان الأمر بجملته لا يطاق، خاصّة أنه من أصول يهودية، رغم أنه من المناصرين للقضيّة الفلسطينية.
هو درس قرن من الحياة القاسية، ما بين هروبه من الستالينية، بعدما عاشها سنوات ستّاً، وفراره من النازية أيضاً، واعتبر المنهجين مؤلمين على من يريد التفكير والنقد والعيش بحرّية وإنسانية، ويقرّر، في نهاية الكتاب، امتنانه للمرأة حينما يقول: "كل امرأة أحببتها، سواء تزوجتها أم لا، قد وهبتني شعرها، ولم يزل شعر الحبّ يغذّي حياتي". هو كائن يلتقط اللحظات الشعرية من حياته مع سيّدة ما أو من خلال تأملاته في مشاهد الحياة اليومية العادية، بعيداً حتى من شعرية القصائد: "غالباً ما كنت أحصل على الشعر في الشارع أو في سوق أو في مطعم، وبخاصة حين أتأمّل في المترو وجوه الإناث، شابّات وكهلات ومُسنّات، التي تنطوي على سرّ لا يُسبر غوره".
نحن أمام شخص حصد من كلّ شيء نصيباً سعى إليه في الأرض، والكوكب عامّة، حتى حينما يقترب منه طير: "المسرّات الشعرية الصغيرة لا تُحصى حين أُعطي قطعة خبز لطائر نورس يأتي ليلتقطها من شرفتي". ورغم ذلك، يعشم وينتظر ويكتب: "لا يزال ثمّة ممكن غير مرئي"، رغم أنه يعضّ دائماً على كسرة التشاؤم بسخريته المرّة من الإنسان، قائلاً: "ينبغي إيجاد لقاح ضدّ داء الكلب الإنساني تحديداً، ولذلك لأننا في خضمّ وباء".