إحقاق الحقّ ليس أكثر

21 ابريل 2025

(إلياس الزيات)

+ الخط -

علينا أن نصدّق، في أحيان كثيرة، أن الواقع أشدّ غرابةً من المتخيّل، والشواهد على هذا في الحياة أكثر من أن تحصى، ما يجعل أعتى كتّاب الفانتازيا وعوالم الجريمة الغامضة والسوداء في عجز عن مقاربة ما يحدث في الواقع من عجائبَ وغرائبَ وفظائعَ يعجز العقل البشري عن استيعابها، بل يبقى مذهولاً فاقدَ القدرة على التعبير إزاء قصص جرائم قتل مروّعة، نفّذها مجرمون مجرّدون من الضمير والرحمة والحسّ الإنساني، بعد ترصّد وتخطيط وتصميم، وتمكّنوا من إخفاء جرائمهم، والنجاة إلى حين من العقوبة، ومواصلة حياتهم بشكل اعتيادي، وكأنّ أيديهم لم تتلوّث بدماء ضحاياهم من دون أن تؤرّق أيّامهم لحظة ندم واحدة.
قصّة غرائبية غير قابلة للتصديق جرت أحداثها في محافظة الكرك في جنوب الأردن في عام 2006، حين اشترك شقيقان في قتل شقيقتهما طعناً بالسكاكين، ودفناها في منطقة بعيدة خالية من العمران. صمتَ عن غيابها العائلة والأقارب والجيران، في مدينة صغيرة يعرف فيها الناس بعضهم بعضاً، خمس سنوات قبل تقديم بلاغ عن غياب المغدورة (2011)، غير أن فرق التحقيق في إدارة البحث الجنائي في مديرية الأمن العام، بعد ورود معلومات جديدة تفيد بوقوع جريمة القتل، أعادت فتح ملفّ قضية تغيّب الضحية، التى عُتّم عليها من دون جدوى، لأنها لم تغبْ بملء إرادتها، بل غُيّبت قسراً وغدراً وخسّةً وخيانةً وجبناً من شقيقَيها، اللذَين اعترفا أخيراً بفعلتهما النكراء.
وفي الأسبوع الماضي، أفاد الناطق الإعلامي في مديرية الأمن العام بأن دائرة البحث الجنائي أعادت التحقيق وجمع المعلومات والاستماع إلى أقوال الشهود من المقرّبين للضحية، ليقود ذلك كلّه إلى القبض على الفاعلين، وقد علّل الشقيقان المجرمان في أثناء التحقيق الجريمة بخلافات مع شقيقتهما القتيلة، وأرشدا الجهات الأمنية إلى موقع دفنها، واستُخرجت وفق الأصول المرعية بقايا عظامها، وحوّلت إلى الطبّ الشرعي لتأكيد هُويَّتها، وأودعت القضية والمشتبه فيهما المدّعي العام لمحكمة الجنايات الكبرى، فقرّر توقيفهما، وتوجيه تهمة القتل العمد بالاشتراك بحقّهما.
عبّر مواطنون عن دهشتهم، واستنكارهم لحالة التواطؤ ممثّلة بالصمت الجمعي في العائلة ومحيطها، وقد تستّر من تستّر على الجريمة البشعة زمناً طويلاً أتاح للقتلة الآثمين سنواتٍ لا يستحقّونها من العيش بحرّية واسترخاء، بعد أن سلبوا شقيقتهم حقّها الربّاني في الحياة، قصفوا عمرها، وألقوها بلا رحمة بعد تمزيق جسدها في عتمة موتٍ صامتٍ موحشٍ من دون أن تحظى بمراسم دفن تليق بإنسانيتها. أرادوا شطب وجودها وكأنّها لم تكن يوماً أختاً يُفترض أن تحوز في عائلتها الحماية والرعاية والحبّ والحنان، غافلين أن الجريمة الكاملة محض وهم، وأن العدالة ملزمة بأخذ مجراها وإنزال العقوبة المشدّدة بمن سوّلت له نفسه تضليل الأجهزة الأمنية وعرقلتها، والكذب والافتراء، بتقديم معلومات زائفة، وذلك حفاظاً على الأمن المجتمعي، وعلى الأرواح البريئة التي تُغتال غدراً. وفي هذه الحالة، لا بدّ من محاسبة من يثبت صمتُه عن قول الحقيقة ذلك الوقت كلّه، واعتباره شريكاً في الجريمة إنصافاً لروح القتيلة المغدورة.
الخوف هنا أن يتكرّر السيناريو في جرائم عائلية، حين يسقط الأهل الحقّ الشخصي، ما يجبر المحكمةَ بموجب القانون على تخفيض العقوبة، ما يتعارض مع فكرة العدالة الإلهية والقوانين الوضعية، ويشكّل اعتداءً سافراً على حقّ الضحية بالاقتصاص من قاتليها، الذين خالفوا شرائع السماء والأرض، وقد صمّوا آذانهم عن دم شقيقتهم الصارخ في البرّية، مطالباً بإحقاق الحقّ ليس أكثر.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.