Skip to main content
أُكلتُ يومَ أُكلتْ إسرائيل
باسل طلوزي

لم يخطر في ذهن الثور الأبيض أن يتلقّى أي اتصالٍ على الخطّ الساخن من الثور الأسود، في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، فهذا الخطّ لا يستخدم إلا للدعوات "الساخنة" فقط، وهو يعلم أنه ليس ثمّة ليال "ساخنة" عند زميله الأبيض، فنهض من فراشه على مضض للردّ على الهاتف.

من الطرف المقابل، جاء صوت الثور الأبيض هلعًا وغير متماسك العبارات، واحتاج الثور الأسود دقائق عدة لاستيعاب فحوى الحديث.

- التهديد هذه المرّة جدّي، يا صديقي، وإذا لم نتحرّك الآن سنؤكل جميعًا، ألم تسمع بمقولة: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض؟.. المقصود إذا أُكلت أنا فسيكون الدور عليك لاحقًا.. أليس كذلك؟".

تثاءب الثور الأسود مقطّب القسمات، فآخر ما كان يتوقعه أن يعيد أحدهم ترديد هذه المقولة الجوفاء أمامه، وخصوصًا أن هذه النظرية تم دحضها على الأرض العربية التي غدت بحق "مقبرة الحتميّات التاريخية".

وبدلًا من احتواء حالة الهلع التي يمرّ بها زميله الثور الأبيض، راحت أفكاره تعود به إلى الوراء، وتحديدًا إلى مطلع القرن المنصرم، عندما بدأت الأنباء تتسرّب عن اتفاقيةٍ لتقاسم منطقة بلاد الشام والعراق بين غولين متوحشين، وسميت "اتفاقية سايكس بيكو". آنذاك، كان مبتدأ بزوغ مصطلح "القطريّة" نقيضًا للوحدة التي كانت تفكّر بها الثيران العربية المنفكّة حديثًا عن إمبراطورية "الرجل المريض"، فجاءت الاتفاقية صفعةً على مؤخّرتها، هي التي راهنت على الغيلان يومًا وتحالفت معها ضد الإمبراطورية البائدة.

آنذاك، كانت الثيران الملوّنة خائفة؛ لأنها كانت ما زالت مؤمنة بمقولة: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، غير أن هذا الخوف سرعان ما تبدّد، بعدما استكانت إلى قطريّتها، بل ووجدت في هذه القُطرية تحلّلًا من التزاماتها ومسؤولياتها حيال الثيران الأخرى، فأصبحت من أشدّ المدافعين عن القُطرية والحدود، بعدما أسبغت عليها قداسةً لا تدانيها قداسة الفاتيكان ذاتها. وما لبث ولعها بالقُطرية أن تفاقم وتعاظم لاحقًا، عندما وجدت أن "الثور الأبيض لم يؤكل"، على قطريّته، ولا الثور الأسود أو الأحمر. والغريب أن هذه الثيران لم تتحالف جماعيًّا في وجه أيّ تهديد خارجيّ، ربما كان هناك نوع خجول من التنسيق أحيانًا، ولا سيّما في العامين 1948 و1967. لكن لا يمكن الحديث بحال عن تحالفٍ عضويّ حقيقيّ، لأن كل ثور منها كان يرسم مصيره المقبل ويخططه منفردًا، وأغلبهم كان ينظر إلى "العدو" حليفا استراتيجيّا مقبلا، وما دام الأمر كذلك، فلينتصر وليقتطع ما شاء من بلادنا ومواردنا، ما دام سيصبح حليفًا.

عندما طال صمت الثور الأسود على الهاتف، راح الثور الأبيض يسأل: أينك يا صديقي .. هل فهمت ما أقول. التهديد جدّي هذه المرّة، ونحن نحتاج إلى تحالف حقيقيّ.

قطع الثور الأبيض حبل أفكاره، فوجد الثور الأسود نفسه يردّ مغضبًا:

على رسلك، أيها الغبيّ، ألم تتعلّم بعد أن نظريات الثيران المأكولة تفشل على الأرض العربية، بدليل أننا ما زلنا على قيد الحياة، أنا وأنت، والثور الأحمر؟ جميعنا ما زلنا أحياء، فلماذا الخوف هذه المرة؟

- لأن التهديد ليس قادمًا من إسرائيل، بل نحن نحتاج إسرائيل عضوًا أصيلًا في الحلف الذي أقترحه عليك؛ لأنها هي الأخرى تواجه التهديد نفسه، وأخشى إن تركناها وحيدة أن يقال غدًا: "اُكلتُ يوم أُكلت إسرائيل".

- أي تهديد تقصد؟

- التهديد القادم من الشرق يا صديقي .. من إيران.

بغتةً غار صوت الثور الأسود، وارتعدت أوصالُه، وبدا عليه الاقتناع بجدّية الخطر عندما سمع عن هذا التهديد القادم من الشرق، فإسرائيل مهمّة للغاية في هذه المنطقة، بل هي مبرّر وجود ثيرانٍ كثيرة وبقائها على عروش الحكم، ويجري إعدادها حاليًا لإدخالها عضوًا، وربما رئيسًا لجامعة الدول العربية، إن قبلت بالطبع.

عند هذه الفكرة، انتفض الثور الأسود، وراح يهاتف الثيران الملوّنة الأخرى، طالبًا عقد اجتماع عاجل، لبناء حلف مضادّ للتهديد الخارجي، وفي ذهنه تتردّد مقولة: "أُكلت يوم أكلت إسرائيل".