"أُفضِّل ألّا..."

28 يناير 2025
+ الخط -

إنها من أشهر الجمل الأدبية على الإطلاق، كُتبت في الأصل بالانكليزية، "I would prefer not to"، وحار عدة مترجمين في نقلها إلى لغاتهم. بالعربية تُرجمت "أفضّل ألّا..." وهي تختصر موقفاً كاملاً من الحياة، كما فرضها التقدّم نحو مجتمع رأسمالي بيروقراطي، طاحن للفرد وأحلامه. صاحب هذه الجملة/ البيان، التي تقول كلّ شيء ولا شيء، هو النسّاخ بارتلبي، شخصية الكاتب الشهير هرمان ملفيل، صاحب الرواية التي جابت العالم "موبي ديك"، في قصّته الطويلة، أو روايته القصيرة، التي تحمل العنوان نفسه (نشرت عام 1853، ضمن مجموعة قصصية).
والحال، قلّما أسالت رواية قصيرة حبر الشروحات والتعليقات والتفسيرات، بقدر ما فعلت قصّة ملفيل، التي لم تكتسب لدى صدورها الأهمية التي اكتسبتها لاحقاً، فشكّلت موضوعاً لعديد من الدراسات الاجتماعية والفلسفية، وألهمت العديد من الفنّانين، ناهيك عن استمرار تأثيرها في القرّاء حتى يومنا هذا. عام 1945، كان موريس بلانشو هو البادئ، حين كتب نصّاً قصيراً عن بارتلبي، إلّا أن الثمانينيّات كشفت اهتمام الفلاسفة بالنصّ وافتتانهم به، فكان أن أعاد موريس بلانشو مرة أخرى الكتابة عنه، وكذلك فعل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز حين أصدر عام 1989 كتاب "بارتلبي أو الصيغة"، والفيلسوف جاك دريدا، الذي رأى في "نص بارتلبي الصغير الهائل" تجسيداً لسرّ الأدب، واعتبره آخرون تعبيراً عن رفض هذا العالم الجديد الذي يمثّله "وول ستريت"، ومقاومة سلبية لمجتمع يحوّل الإنسان آلةً. وقد أشير أيضاً إلى الإرهاق أو الاكتئاب الذي عانى منه ملفيل في ذلك الوقت، في أثر علاقته المستحيلة مع الكاتب ناثانيال هوثورن. القائمة تطول، وقد يكون شرح دولوز للجملة/ الصيغة وضرورة الاكتفاء بها لقراءة هذا العمل، من بين أفضل ما كُتِب، فما الذي يجبر الروائي على شرح سلوكات شخصياته وتحديد مسبّباتها، عندما لا تفسّر لنا الحياة بوضوح أو بشكل تلقائي بعض مناطق الظلّ المغلقة في مخلوقاتها؟ وبرأيه، فإن ما يميّز الرواية الأميركية، كما الرواية الروسية، هو ولادة شخصياتٍ تقف في العدم وتعيش في الفراغ، وتحافظ على لغزها حتى النهاية، متحدّية المنطق وعلم النفس.
في خمسينيّات القرن التاسع عشر، تدور أحداث قصة بارتلبي، في منطقة وول ستريت في نيويورك، الراوي محامٍ قرّر توظيف "كاتب" رابع بعد نموّ عمله وازدياد المهام على موظفيه الثلاثة. إنه بارتلبي، الشاب المهذّب المرتّب، لكن غريب المظهر، الذي أثبت في الأيّام الأولى أنه ناسخ جيّد جدّاً، سريع، يعمل ليل نهار. إلى أن تحلّ اللحظة حين يطلب منه ربّ عمله التدقيق في صحّة النسخ، ومقابلتها مع الوثيقة الأصلية، فيجيبه بجملته الشهيرة، بكل تهذيب، وإنما بحزم: "أُفضِّل ألّا (أفعل).. يدهش المحامي من رفضه تنفيذ طلباته عدّة مرات، ويشعر بالحيرة والعجز، فيصبر شفقةً على شابٍّ مسكين سيكتشف أنه لا يأكل غير كعكٍ بالزنجبيل، وينام ويعيش في مكتبه الصغير، فينتهي أن يتسامح مع هذا الوجود غير العادي. تتصعّد المواقف، ويتوقّف بارتلبي عن العمل بسبب عينيه، ويعرض المحامي عليه أكثر من حلّ، إلى أن يقرّر أن السبيل الوحيد للخلاص منه هو الانتقال إلى مبنىً آخرَ، في حين يقرّر بارتلبي أنه يُفضِّل ألّا يتحرّك من مكانه.
يُطرَد بارتلبي من المكتب بعد تأجيره لمحام جديد، فيبقى في المبنى يرفض الانتقال منه، إلى أن يُعلِم المالكُ الشرطةَ بوجوده متشرّداً، فيُنقَل إلى السجن. لا يبدي بارتلبي أيّ مقاومة، ويبقى ممتنعاً عن الأكل، ويُسمَح له بالتجوّل في باحات السجن على راحته، وذلك بعد شهادة الراوي لصالحه، وملاحظة آمر السجن كم هو مسالم، وربّما "مُختلّ". يُمضي بارتلبي نهاراته واقفاً في مواجهة الجدار، كما كان يفعل في المكتب، جامداً في مواجهة الفراغ، ويقوم المحامي بزيارته ليتفقّد أحواله، إلى أن يكتشفه ذات مرّة في الباحة الخارجية نائماً، مفتوح العينين، فيلفظ جملته الشهيرة: "آه يا بارتلبي، آه أيتها البشريّة".

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"